[إلى روح سامي العلي، 13 عاماً - تحت الركام، قرب الحدود]
في خروجه الأوَّل، عندما كان يتعلّم المشي بين القرى، والقفزَ بين كثبان الحدود، اندلعَ فيهِ بحثٌ عن ضَوء يَراعةٍ كي تدُلَّ أمَّهُ على نافذة مُثلى لاختراقِ الحدودِ، خارج احتمالات موتٍ ما أو أزيز رصاص، ما كان وقتها يدرك من أسباب الحدود شيئاً سوى شِجار أختيه الكُبرييْن على مساحة حدود منتصف السرير لتندلع حرب الوسائد.
لقد قرأ ذاتَ كتابٍ مدرسيٍّ ملون، بأنَّ الضوءَ اكتسابٌ قُدَّتْ ملامحه من دهشة الماء الزُّلال، وأن اللون شكل هندسي مُقتبسٌ من ماء بئر العدالة، هو اقتباس ما، لنورٍ ما بعد سيف الظلام الطويل المُشهَر على عُنقه، السيفُ ذاتُه الذي طار عالياً كغُرابٍ زاعقٍ بالشؤمِ، ورافقهُ فوقَ الحدود كأنَّما هو ظلٌّ له، وكأنما هما -السيف الدامي والحدود- في تلازُمِ حَبكةٍ روائية دائمة الحضور في الأرض وربما في السماء.
متى ينتهي الفصلُ الأخير؟
متى ستكتملُ الرواية؟!
في حُدودهِ القُصوى يكون الأمرُ حُلُماً، ظنَّهُ بحثاً فَصيحاً عن بدايات جديدة، عن طُرقٍ تجتازُ إشارات المرور وقُبَّعةَ الشُّرطيِ المُرتشي، حيث تنتفضُ الألوانُ، وتُنسى كُتبُ الببَّغاوات اللقيطة، تلك الكتبُ الابتدائية التي تُعلِّمُ تقاسيمَ موسيقى الخضوع والخوف، فتُمجِّد المقامات الشواذ، حيث تنتحر الحقيقة لتُدينَ الحروفَ وتقدّس أسرابَ النُّحاة وشيوخَ البغاء.
في مَسيرهِ من مخيمٍ في حلب إلى مخيم في حلب، رأى في طريقه انتباهات الحقول القُطنيَّة البيضاء، لأول مرة يرى قطناً ينمو على ثلج الرؤوس الشاهدة حيث لا شمسَ ولا ثلجَ يُذكر، لأول مرة يختفي خلف ظل شجرة، مُجرَّدُ ظلٍّ كي يحتمي بتلابيبه من رصاصِ قبيحي الوجوه الممتلئين بشهوة القتل ورغبةِ الموتِ وموسيقى الزلازل.
هل شربتَ الحليبَ يا سامي؟
بدتْ لها في الأفق تباشيرُ صلاة الفجر، لكنها لم تُكمل جملتَها حتى صار كوب الحليب خارج المبنى دون المرور بنافذة قَطُّ، فقد أضحت كلُّ الجدران نوافذَ، خلال ثوانٍ قليلة كان التباس الهندسة أسرعَ من لمعة التفكير بما يجري، حينها، هَبَّ قافزاً من سريره المائل كي يحتمي بثوب أمه وبِرشقاتِ الحليب التي طارت ببياضها كحمامة زاجلة.
خلال ثوانٍ حطَّ الرُّكامُ على جسدي كأنما هو كيسُ طحينِ المساعداتِ المثقوب عمداً كي يسرق منه الموزعون نصفه بحنكة غبية


كاذبون هم الكبار حين قالوا بأن كوباً واحداً من الحليب في الصباح سوف يجعلني قوياً، كاذبون هم الساسة، إذ قالوا لأمي وهي تصرُّ على البقاء أن اذهبي فلا موت يصلُكم هنا، لم يقل الشيوخُ في المخيم السابق بأن الرصاص والقنابل وحدَهُما يختصان بابتكار الموت، ولا قيلَ في المخيم اللاحق.
طوالَ الطريق سيْراً، وكان عمري أربع سنوات، لم تقل أمي يومها سوى كلمات قليلة عن صفحات الرحيل، ونحن نجتاز الحواجز والتلالَ والبساتينَ المُفخَّخة، وقد أطلق النارَ علينا كلُّ مُرتدي القُبَّعات بأشكالها وألوانها المختلفة الذين يختلفون في كل شيء إلاَّ قتلنا، وما إنْ وصلنا نحن الأشخاص الستة -ربما يجب أن أخبركم بأننا كنا قد انطلقنا بِعددٍ لا يقل عن سبعين، فقد قُتل الباقون على طريق النجاة الواهمة- حتى بدتْ لي أمي مثلَ المُذيعِ والشيخ وحمَلَةِ السلاح والمهربين وشرطة الحدود، كاذبةً مثلهم، وهي ذي لم تترك لي طرف ثوبها فطارت مثل منشفة صغيرة من على حبل الغسيل وبقيت وحدي.
سوف أشتكي عليهم جميعاً حين ألتقي بربّ العرش العظيم، لن أترك أياً منهم، سأقول لله بأنهم تركوني جميعاً نائماً في العراء وهم مشغولون بالغنائم، ثم استضافونا في خيام صُممتْ كي تطير على وقع الثلوج والرياح الحدودية فعُدنا للعراء مرة أخرى كما في كل مرة، والآن أعود مجدَّداً، أهبط مثل قطة جارنا الأعمى عندما كانت تلاحق فأراً صغيراً، أحاولُ اللحاقَ بثوب أمي وكوبِ الحليب وصرختِها التي لم يسمعها سواي بفِعلِ اندلاع ضجيج النوافذ والحيطان والأبواب الطائرة.
خلال ثوانٍ حطَّ الرُّكامُ على جسدي كأنما هو كيسُ طحينِ المساعداتِ المثقوب عمداً كي يسرق منه الموزعون نصفه بحنكة غبية، أظنُّ بأن يدي اليسرى المهروسة مبتورة تحت تلك الكتلة الإسمنتية التي تزن أكثر من باصين مليئين برُكَّاب حلب-طرطوس، وقد ذاب أنفي بالثلج وسقط، وأنا أنتظر ذوي القبعات بأيٍّ من ألوانها، لكنني لفظت غبار أنفاسي ولم يأت أحد.
كان يبحث، ظلَّ يبحث، سريرُه غاصَ في شقوق الأرض والمطر، وعلقَتْ قدماهُ في صلابة الإسمنت المسلح، هو ذا يبحث عن صرخة النجاة حتى غاص في وحلها عميقاً، في ذلك الأخدود بين صورةٍ سقطتْ عن الجدار وجدارٍ سقط داخلَ الصورة.
أنا سامي محسن العلي، أشكوكم لله جميعاً، من هنا، وأنا تحت جبل الإسمنت الصلب هذا، وأعدكم بأنني سأطلب من الله محاسبتكم جميعاً فورَ وصولي إليه، هناك في عالم الضّوء، حيث لن أرى كل أنواع الكاذبين وتجار الزلازل.