...وأنت تقلب «الريلز» في الهاتف، هروباً من واقع أو تسلية ليمضي الوقت، هناك من يلفظ أنفاسه تحت الركام. وأنت متسمّر أمام التلفاز بحثاً في القنوات للترفيه، كثير من الناس توقف ضخ الدم في عروقهم بسبب البرد أو لتوقف الدورة الدموية. ونحن نصحو من فراش دافئة، آلاف ناموا تحت ما كانت بيوتهم، وهي نومتهم الأخيرة. وهم يعدّون الأموات والخسائر، ويفتشون عن ناجين محتملين، كانت وسائل إعلام تهرّج في برامج منوّعات، ورجال أزمات يبحثون عن الربح، ورجال سياسة يحسبون المصالح. هي الكارثة بوجهها المكلوم المحروم المظلوم، وآخر براق ضاحك طامع.
(صهيب عمراية)

لا تفرق الطبيعة وظواهرها بين الوزير والغفير، الحاكم والمحكوم، الموالي والمعارض، الظالم والمظلوم، المريض والطبيب، الفقير والثري، المدني والريفي... لكنها تقسم الأحياء، البعيدين والقريبين بين متضامن بقوة، وآخر لا يعنيه الأمر. هكذا فعلت دول وحكومات ومؤسسات وجماعات وأفراد. وهنا لا مساواة في الأمرين.
كيف يمكن أن نغفر لدولة تملك المال والقدرة عدم تدخّلها العاجل؟ أو كيف يمكن مسامحة عالم دين تذكّر الآن الذنوب والمعاصي، قبل أن يذكّر الناس بضرورة المساعدة؟

فكيف يمكن أن نغفر لدولة تملك المال والقدرة عدم تدخلها العاجل؟ أو كيف يمكن مسامحة عالم دين تذكّر الآن الذنوب والمعاصي، قبل أن يذكّر الناس بضرورة المساعدة؟ وكيف يمكن نسيان الليلة التالية من زلزال شرق المتوسط، وقناة لبنانية تعرض برنامجاً هزلياً فيه أضحوكات حول الهزات الارتدادية؟ هل بعد عام حين تحلّ الذكرى السنوية للزلزال يمكن تذكيرهم بما فعلوا؟ أم الأمر غير مهمّ؟ تكمن أهمية الإجابة أو التفكير بها على الأقل، بأن «الدنيا دولاب» وما حصل في سوريا وتركيا، ربما يحدث في أماكن أخرى. حينها سيطلبون الدعم والتضامن والتعاطف، ولا يُعرف كيف سيكون موقف أصحاب الكارثة حالياً؟

■ ■ ■

صحيح أن الصفائح التكتونية لم تسأل الضحايا عن مواقفهم السياسية ومكانتهم الاجتماعية، أو عن أعمارهم وطموحاتهم، أو عن أموالهم المنقولة وديونهم وميراثهم. لكنها وضعتهم في الاختبار الأقسى: هيا صارع لتبقى على قيد الحياة. هنا النجاة واحتمالاتها، لها طابع فيزيائي مرتبط بالمكان والباطون وصلابة العمران، واهتزاز الأعصاب البيولوجية. المفرّ يحتاج إلى الكثير من القدر والحظ، ويحتاج في الأصل إلى رؤية للدولة. وفي المحصلة العامة، هي تجربة الموت أو الهروب منه. وما يميّز هذه التجربة أن المساواة موجودة فيها. فمن لم يجد المساواة أو العدل طوال حياته، يمكنه تلمّسها بقوة الزلزال، وانتشاره جغرافياً من دون تمييز اجتماعي وسياسي. ربما هذا منطق فلسفي ينطوي على العدل الإلهي، لكن جميع من لم يشعروا بمساواة الموت، أحسّوا بمساواة الخوف ولو كان بدرجات مختلفة.
■ ■ ■

سالفاً، لم يكن مهماً كثيراً، إن كان لسانك تركياً أو عربياً أو كردياً. كذلك لم يكن العرق أساسياً في اليوميات البشرية. جمعت الجغرافيا الأقوام ووحّدهم الدين طويلاً. أتى «سايكس بيكو» ففرّقهم إلى دويلات وجنسيات، وأقام الحدود بينهم. أعاد الزلزال المساواة المنطقية التاريخية، ولم يهتمّ بالتقسيمات الإدارية والعشائرية. كذلك المصيبة أصابتهم جميعاً، فلم يفرّق الموت بينهم. ولعلّ هكذا مساواة من الطبيعة تعيد الوئام إلى منطقة تنزف دماً منذ أكثر من عشرة أعوام.