إسطنبول | انتهت اللحظات الأولى من الزلزال، وبدأت معها رحلة البحث عن الحياة، في سوريا كما في تركيا، اجتمع الموت على جانبَي الحدود، مدن وقرى ومخيمات، بكل ساكنيها امتلأوا بالذعر والهلع، في لحظات اختلف المشهد، ثمة حياة، كانت قبل دقائق من عمر زلزال، فيها ذكريات وأحلام وهموم شخصية وجماعية، هشّمها الموت القادم، تحت ركام البنايات، التي هوت على الأرض بساكنيها. لم تمرّ الأيام الأولى من لحظة وقوع الزلزال، إلا وتكشّفت حقائق جديدة، أعداد الضحايا والإصابات والمشردين في العراء، تزداد في كل وقت، كان وجهه القبيح يظهر على مهل.
ومع هذا، فإن إرادة الحياة لدى السوريين والأتراك والجاليات الأخرى التي تعيش في الأماكن التي ضربها الزلزال، تكشّفت هي الأخرى، ففي الشدائد ظهرت المعادن الحقيقية للإنسان، الكل منهمك في متابعة الأخبار، والكل يسأل نفسه ماذا يمكن أن يقدم من المساعدة؟ بعيداً عن حراك الدولة التركية السريع الذي جاء مباشرة بعد وقوع الزلزال، القوى المجتمعية على تشكيلاتها كافة، انتظمت لتعيد اللحمة، عبر سلسلة من الأنشطة، التي طالت التبرع العيني والمادي، والتبرع بالدم، والتوجه للتطوع نحو مكان الزلزال، الإعلام، وسائل التواصل الاجتماعي جنّدت نفسها في خدمة المهمة الكبرى وهي التعبير الفعلي بأن المصاب واحد.
تتمشى في الطرقات يواجهك رجل عجوز، يحمل كيساً من المواد الأولية، ذاهب فيه إلى أحد مراكز جمع التبرعات.
هذا المشهد ليس بعيداً عن كل الجاليات العربية التي أعلنت منذ اليوم الأول عن تجندها في خدمة ضحايا الزلزال. مراكز التبرعات هي الأخرى، شاهدة على عمق التفاعل للجاليات العربية مع المأساة التي حلت بهذا البلد. ففي كل لحظة تعلن أسماء الضحايا، سوريين ولبنانيين وفلسطينيين كان لهم الموت بانتظارهم في هذا الزلزال، في تركيا، كما السوريين والفلسطينيين في سوريا، لهذا ولأجل المصيبة الإنسانية التي حلّت، هبّت المؤسسات العربية من مختلف مشاربها، لتشارك في لملمة الجراح.
وما بين تركيا وسوريا الجريحة هي الأخرى، تمتد يد العون، منها بدافع إنساني، ومنها أيضاً ملتفّ بحبائل السياسة وعقدها، لم تخرج الكارثة العقد من أيديولوجيات الزيف بعد، والبعض ما زال يقرأ دفاتره القديمة، ويريد أن يمليها على الآخرين. الزلزال يختبرنا ويختبرهم، من منا أقدر على نداء الحياة، من دون مساحيق الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، كل تلك الشعارات تُختبر اليوم، في أزقة مارع وسلقين وجنديرس، وكهرمان مرعش، وأنطاكيا وغازي عنتاب، والنتيجة معروفة سلفاً للجميع، السياسة وسيوفها وجيوشها تسبق تلك الشعارات، إنها فلاتر المايسترو الغربي الذي يريد أن يعزف اللحن وحده، ولا يريد منا حتى الاستماع.
وأنت تنظر للتصريحات الصحافية للساسة الغربيين، تجد أن هناك عطباً في إنسانيتهم، وحتى القليل من الدعم الذي قدموه، يرون فيه كثيراً، يريدون فرض معاييرهم على الآلاف من الذين ينتظرون حتفهم في أي لحظة تحت بناء في اللاذقية أو الأتارب أو في مخيم الرمل الفلسطيني الذي امتلأت أزقته بالضحايا.
يسعد المرء عندما يقرأ أو يسمع أو يشاهد مدى التأثر الكبير للجاليات العربية في الدول الأوروبية، ففي كل لحظة يكتمل إعلان عن تبرع مالي، أو تبرع بالملابس، فيما هنا على الأرض تشاهد أعداداً كبيرة من المتطوعين، سخروا أنفسهم وسياراتهم في خدمة الناجين، عبر نقلهم من الولايات المتضررة، إلى ولايات أكثر أمناً. ويصاحب هذا الفعل مئات الإعلانات عن توفر أماكن المبيت، وتوفر المأكل والمشرب، كأن رسالة الناس هنا أنهم الأقدر على استيعاب المأساة، وتظهير إنسانية بلا حدود، فمع الزلزال سقطت رواية العنصريين هنا، بعدما تقاسم الأتراك والسوريون الموت، كما تقاسموا الحياة قبلها، تقدم اليوم الأكثر تصالحاً مع الحياة من كلا الجانبين، وتقاسموا المهمات في ما بينهم، لتجد العنصريين مجرد لغات مجنّدة في الميديا، تختفي عندما تحين لحظة الحقيقة.
المأساة كبيرة جداً، ونتائج الزلزال وما خلّفه من ألم وضحايا، ستحفر في ذاكرة الأجيال، لكن ذلك لم يمنع من القول إن بشراً اليوم امتلكوا إنسانيتهم، وانسلّوا مع انبلاج صباحاتهم، لخدمة الآخرين، لم يتعبوا ولم يعلنوا تعبهم قبل أن تكتمل رسالتهم «إنهم إخوتنا وعلينا مساعدتهم» هذا ما تسمعه على ألسنة المتطوعين.
الزلزال فعل الطبيعة، لكن التعامل مع نتائجه المدمرة يكشف عن مدى حضور الفعل الإنساني بلا شروط، أن تتخذ لنفسك مكاناً لفعل أي شيء في خدمة ضحاياه بغير شروط مسبقة، أن لا تتلقى عليه أجراً.

العودة إلى الحياة
من المهم التذكير بأن هناك لحظة ما بعد الزلزال، لتزول آثاره المدمرة، بفعل إرادة الحياة ودينامياتها، بفعل قوة الإنسان على البناء من جديد، ومع هذا فمن كان يعتقد أن ما خلّفه الزلزال من ضحايا وخسائر مادية، يمكن أن يوظف في خدمة فك الحصار المضروب على سوريا بفعل قانون «قيصر»، فهو واهم، فالحصار المضروب منذ سنوات هو أيضاً زلزال من صنع الساسة، وخلّف من الضحايا ربما أكثر مما خلفه زلزال الطبيعة، ولهذا فإن أي رهان هو رهان خاسر. لقد شاهدنا من قبل ما فعلوه في العراق قبل ثلاثة عقود، من حصار طال كل شيء، ووصل إلى حد وفاة نصف مليون طفل عراقي، تحت تأثيراته، ومع هذا لم يكترث أي أحد لهذا الموت الناتج من هذا الحصار.

الموت يلاحقهم في المنافي واللجوء
في اليوم الرابع ما بعد الزلزال، عائلات فلسطينية بأكملها فقدت تحت أنقاض البنايات المدمرة، حتى الآن أكثر من سبعين ضحية، وعشرات المفقودين، وفق إحصاءات وزارة الخارجية الفلسطينية، التي تتابع أوضاع الجالية الفلسطينية في تركيا واللاجئين في سوريا، وتحدث بياناتها في كل لحظة، اتحاد الطلبة الفلسطينيين في تركيا، وعبر أعضائه، انضمّوا إلى فرق التطوع في كل الولايات التركية المنكوبة، ووضعوا كل إمكاناتهم في خدمة الجميع، إضافة إلى العديد من الجمعيات الخيرية الفلسطينية العاملة في تركيا، انضمت هي الأخرى إلى تلك الجهود المبذولة، كذلك على الطرف الآخر في سوريا، انضمّ الهلال الأحمر الفلسطيني إلى تلك الجهود، إضافة إلى مئات المتطوعين الفلسطينيين، في محاولة من الجميع لأن يقدّموا كل جهد، فالفعل الإنساني اختبار للفلسطيني أينما حلّ، طالما أن له نصيباً في الألم والوجع والضحايا.