كارثية هي أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات الشمال السوري، هناك حيث امتد ألم الزلزال المدمر في جنوب تركيا ليطاولهم، تاركاً أفراد عائلات بأكملها بين قتيل ومصاب ومفقود وشريد، ولا سيما في مخيمي النيرب وحندرات في محافظة حلب، ومخيم الرمل في اللاذقية. لم يكفِ الفلسطينيين ألم اللجوء والحروب وعدم الاستقرار، طوال عقود ممتدة، حتى عاجلهم الزلزال، وهم وإخوتهم من السوريين، تاركاً منازلهم المتواضعة، أثراً بعد عين، وأطلالاً لقصائد الشعراء الوجدانيين. بعد هذه المأساة، يبدو اللاجئ الفلسطيني من دون حول ولا قوة، بعد أن امتد تخلي العالم عنه في فلسطين، ليطاوله في سوريا مع السوريين، كيف لا والأبواب مغلقة أمام البلاد، والأقفال موصدة دونها. حالة المخيمات الفلسطينية في سوريا، لا تختلف عن مثيلاتها في بعض دول الطَّوق، مأساة الفلسطينيين كالعدوى تنسحب عليهم جميعاً أو تكاد، من خلال سوء البناء، والتمديدات الصحية والكهربائية العشوائية، وتواضُع الخدمات المقدمة. كل ذلك وسواه، ترك المخيمات في حالة يرثى لها، لا مناعة لديها لمواجهة أي طارئ، وهو حدث خلال الزلزال المدمر، ليجد اللاجئون أنفسهم، وحيدين يواجهون الموت، في ظل ظروف الحياة القاسية، وإدارة الظهر لهم، من المجتمع الدولي، والجهات المسؤولة، في مشهد يتكرر كلما داهم الخطر الفلسطينيين، بفعل العوامل الطبيعية أو البشرية، وكأنهم لا بواكي لهم.
المشهد مأساوي، معالم اختفت، ومنازل سُحقت، وعدّاد الموت حصد الكثير من الأرواح البريئة، ومع كل ساعة تمر على الزلزال تتعاظم المأساة أكثر فأكثر، ويتسع حجم الألم، وتتكشف باطّراد طبيعة الكارثة، عائلات بأكملها مُحيت من السجل المدني، وأخرى نجا منها فرد أو اثنان، والعالم في غفلة، ينظر بعين ويعمي أخرى، وسط مشاهد حزينة للغاية، حُفرت في الأذهان، والذاكرة بعيدة المدى، وأضافت إلى تاريخ النوائب الفلسطينية والسورية ما يكفي للبكاء طويلاً. طفلٌ خرج بعد خمسين ساعة من تحت الركام، وأم فارقت الحياة، وهي تضم إلى صدرها فلذات أكبادها، ورجل بقي ممسكاً يد ابنته، التي ودعت شبابها، ومنقذ يلقّن شخصاً الشهادتين قبل وفاته، وامرأة أبَت أن تخرج من تحت الأنقاض قبل إحضار حجاب لها، والعديد من القصص المؤلمة.
ومما زاد الطين بلّة، أن مصاعب كبيرة تواجه فرق الإنقاذ، بسبب كثرة أعداد المباني المدمرة، سواء في مخيم الرمل أو في المناطق السورية التي ضربها الزلزال، فضلاً عن قلة الإمكانات المتوفرة، في حين لم تكن الجهود المبذولة لإغاثة اللاجئين ومساعدتهم كافية، قياساً إلى حجم المصاب، في ظل شحّ في الغذاء، والدواء، والكسوة، ومحروقات التدفئة. ومن سخرية القدر، أن جهود بعض الجهات الإغاثية والمنظمات المدنية، تنصبُّ على إيواء المتضررين في خيام، وسط البرد والعواصف، ريثما يتم إيجاد البديل لهم، وهذا لا يعيد إلى الذاكرة إلا السيرة الأولى للجوء الفلسطيني، زمن النكبة، كأنّ التاريخ يريد أن يكرر نفسه، ويذكّرنا بما حصَل آنذاك.
ما يحصل يستدعي وقفة، كأنّ الشقاء يلاحق الفلسطيني أينما حل -وربما كل أهل هذه المنطقة من العالم- كأنه قدَر مُبرم عليهم، أن يقاسوا الألم وحدهم، وأن يعيشوا وحدهم، ويموتوا وحدهم، كأنه كُتب عليهم العذاب، لا لأجل شيء، إلا لأن احتلالاً سلب فلسطين، وشرّد شعبها في بلاد الله، ليقاسي هذا الشعب، وتقاسي البلاد من حوله، ويلات تزيد الألم ألماً والقهر قهراً.
وكذا اللاجئ الفلسطيني في كل البلدان المحيطة بوطنه الأم، يعاني ما يعانيه أقرانه في البلد المضيف، ويعاني من أجل إحقاق حقه بالعودة إلى فلسطين، ففي سوريا 12 مخيماً للفلسطينيين، كان من المفترض أن تكون ملاذاً مؤقتاً، منها يعبر اللاجئ إلى وطنه عائداً، لكنها أضحت، في الحقيقة، أماكن قد يودع الإنسان فيها نفسَه أو أحبابه، عند أيّ منعطف، وداعاً لا لقاء بعده.
في الشمال السوري تقيم قرابة 62 ألف لاجئ فلسطيني، يقاسون شظف العيش، وقسوة الأيام، والفقر، والبطالة، ولم يكن ينقصهم إلا زلزال، يضيف إلى مآسيهم مأساة مركبة، يموت منهم من يموت، ويهجَّر الباقون، إلى حيث شاء الله، بحثاً عن ملاذ آمن، تقول الشواهد التاريخية، إنه قد ينقلب عليهم يوماً. صحيح أن المشهد محزن للغاية، لكن ما هي جِبلَّة هذا الشعب، الذي يستطيع التغلب على كل النكبات والفواجع والمصائب وحوادث الدهر، ويخرج منها بروح متجدّدة، وبأمل آخر، وبرغبة مختلفة، في مستقبل أفضل، قد يضحك له يوماً، ويعيد له وطناً سليباً، وحقّاً شريداً، حُرم منهما، على مدار عقود من الزمن.