مشاهدة بناية تسقط بساكنيها من جرّاء زلزال، ليس كمثل سقوط البضائع عن رفوف سوبرماركت. وجود السكان تحت أنقاض الحضارة يعني سقوط نوع من الإنسانية، بينما يفترض أن يشكل سقوط البضائع نموذجاً لسقوط الإنسان بوصفه مستهلكاً. أول درس يفترض استخلاصه بعد زلزال، أو بعد هزّة أرضية بسيطة، أنّنا نعيش على أرض مهزوزة وغير ثابتة. وأنّنا مهما تعالينا وتكبرنا وتجبرنا… فإن السقوط مصيرنا عاجلاً أم آجلاً. 40 ثانية من اهتزاز المكان وزحزحة الأدوات يفترض أن تزحزح هذه «الأنا» بوصفها مركزاً للكون. ثم، أن تكون على فالق أو على خط زلازل ليس كما لو أنك على مفرق أو على مفترق.
صحيح أن التباعد بين تواريخ الزلازل يمكن أن ينسينا مكان الصدع والتهديدات وحالة الخوف والهلع، إلا أن هول الكوارث والضحايا والدمار يفترض أن يدعونا إلى إعادة النظر بفلسفة وجودنا، وأن يترك أثراً كبيراً في سياساتنا وخططنا المستقبلية. وصحيح أن بلداً مثل لبنان دائم الهزّات الأمنية والسياسية والاقتصادية… يمكن أن تساهم أيّ هزّة جديدة فيه في محو ما قبلها، إلا أن ذلك لا يعني أن علينا الاستسلام إلى قدر ليس محتوماً. وإذ تساهم حالة عدم القدرة على التنبؤ بالزلازل في حالة الاستسلام للقدر، إلا أن السياسات المطلوبة للوقاية من الزلازل والهزّات، هي نفسها السياسات المطلوبة من أجل تنظيم المجتمع وضمان المساواة وحقوق الإنسان (الآتي والقادم) الاقتصادية والاجتماعية، وضمان ديمومة الموارد. ثم لا حاجة إلى المزيد من البراهين لإمكانية تكرار الزلازل كما لحصول تسونامي، وإن كان آخر زلزال تسونامي حصل عام 551، فيما وقع آخر زلزال بري عام 1956. فكلّ شيء وارد أن يتكرّر، ولا أحد يستطيع أن يقدّر متى. فأيّ سياسات كان يجب أن تُعتمد لتجنب الكوارث وحماية المجتمع في آن؟

غياب سياسات التجنّب
إذا كانت موجات التسونامي واردة في أيّ وقت، لماذا حصل كل هذا التسابق للبناء على الأملاك العامة البحرية؟ كانت الأجيال السابقة، الأقرب منا إلى تواريخ الزلازل البحرية، تعرف أن هذه المساحات على الشواطئ يجب أن تبقى أملاكاً عامة وغير قابلة للسكن، وذلك تجنّباً لزيادة أعداد كبيرة من الضحايا في حال حصول أيّ كارثة. وكانت حكمتهم تقول: إذا كنا لا نستطيع تجنّب الكوارث، لكننا نستطيع تجنّب المزيد من الضحايا إذا ابتعدنا عن الأماكن الحساسة. والمعروف في الكثير من شواطئ العالم المعرّضة بشكل أكبر لموجات تسونامي أنها أبقت على أنواع من الأشجار الشاطئية (مثل المانغروف) التي تساهم في امتصاص الأمواج الكبيرة والعاتية. أما كان من الأفضل عدم التمادي في خطأ تزايد العمران على الشاطئ؟ كما أن وجود لبنان على خط الزلازل كان يحتم على المخططين وواضعي السياسات المائية أن يتجنبوا التفكير في سياسة إنشاء السدود السطحية المكلفة. مع العلم أيضاً أن هناك شكوكاً كبيرة بأن تكون السدود الضخمة كسد أتاتورك سبباً إضافياً لاستجلاب الزلازل.
40 ثانية من اهتزاز المكان وزحزحته يفترض أن تزحزح هذه «الأنا»


بلد على خط الزلازل، كان يفترض أن يضع كلّ سياسات التجنّب والاحتراس والوقاية والتكيّف… بدل سياسات التحدّي للطبيعة والتعدي عليها. بلد على خط الزلازل كان يفترض أن يعيد النظر بكلّ السياسات، بالإضافة إلى إنشاء هيئة خاصة بإدارة الكوارث. ليس مهمة هذه الهيئة فقط أن تحجز لها الحكومة بعض المال من أجل حال الطوارئ، وأن تكون شاملة وطنية وتضمّ ممثلين عن الوزارات المعنية بإدارة الكوارث ومراكز الأبحاث، وأن تكون وحدات مدربة ومجهزة للإنقاذ والإسعاف مفروزة لها… بل أن تضع سياسات احتراسية تتعلق أولاً بترتيب الأراضي وإعادة النظر بأسس التنظيم المدني وبتوزيع وضبط الزيادات السكانية ودعم الأبنية وإعادة النظر بقانون البناء وإلزام الأبنية الجديدة بضرورة الالتزام بشروط السلامة ومقاومة الزلازل. بالإضافة إلى منح المستشفيات عناية خاصة لكي تستطيع أن تصمد بعد أيّ زلزال وتقوم بدورها في الرعاية بعد الكوارث، وتدعيم المدارس والجامعات للحماية واستقبال وإيواء الذين يفقدون منازلهم. فلو قام لبنان بمسح شامل لمعرفة حالة الأبنية ومدى استعدادها لاستيعاب هكذا أنواع من الكوارث، لتبيّن من دون مبالغة، أن أيّ زلزال يضرب هذا البلد الذي نخر الفساد عروقه مثل المخدّر، كان يمكن أن يكون مدمراً بأضعاف ما شاهدناه من مآسٍ في سوريا وتركيا المنكوبتين. فبالإضافة إلى العدد الكبير من الأبنية القديمة، «يتميّز» لبنان بمشكلة تلك المبنية بطرق غير نظامية وشرعية، بالإضافة إلى الفساد في المواد والرقابة والتراخيص، وإضافة الطبقات المبنية بطرق ملتوية وما سمي تاريخياً بـ«طابق المرّ»، رمز المخالفات والفساد والرشى الانتخابية.
فهل تعلّم المتكبّرون الدرس؟ قد يقول البعض إن 40 ثانية رعب لن تؤثر على مئات السنوات من العنجهية الإنسانية، ولا على الوهمية، المتحكّمَيْن.

قيمة الإنسان
ليست مهمة هيئات الإنقاذ وإدارة الكوارث التحرّك بعد كلّ كارثة فقط، بل وضع السياسات لتجنّب الكوارث أو لجعل وقعها أقلّ كارثية.
لبنان على خط الزلازل يتطلب تغيير كلّ الاستراتيجيات والسياسات. الموضوع يتطلب أولاً إعادة تقييم قيمة الإنسان عندنا. فعلى السياسات أن تخدم الإنسان… وعلى هذا الأخير أن يعرف حدوده. فالكوارث الطبيعية والمناخية هي نوع من إنذار. قد يكون إنذاراً مبكراً ومتأخراً في آن، بالإذن من أدوات القياس ومقياس «ريختر». هو متأخر بعد حصول الكارثة. كما هو مبكر إذا راجعنا تاريخ الكوارث. قد تكون هذه الأخيرة بمثابة تذكير بأنّ على الإنسان أن لا يتجاوز حدود نوعه. هذا ما تقوله قوانين الطبيعة التي علينا أن ندرسها جيداً قبل أن نضع قوانيننا. كما على الإنسان احترام قوانين الطبيعة إذا أراد احترام نفسه. لطالما دفعت الكوارث الطبيعية الشعوب إلى تجاوز الخلافات والنزاعات والمنافسات… وفرضت التعاون. فهل تقول الكوارث لنا شيئاً؟ هذه الكوارث المتراكمة والمتفاقمة، من طبيعية ومناخية واقتصادية ومالية وسياسة… هل وصلت رسالتها؟