رام الله | انقشع بعض الضباب الذي رافق الحَراك الدبلوماسي الأميركي في المنطقة، وزيارات المسؤولين الأميركيين للأراضي الفلسطينية المحتلّة، ليتّضح أن الهدف الرئيس من تلك التحرّكات، قتْل حالة المقاومة الفلسطينية الناشئة في الضفة الغربية، وتوفير الأمن لإسرائيل، هذه «البقرة المقدّسة» التي لم تكفّ واشنطن عن اللهاث لتحصينها كلّما أخفقت تل أبيب في ذلك، ولو كان الثمن الآن إشعال حرب أهلية فلسطينية. وبعد قرابة عام من إطلاق جيش الاحتلال عملية «كاسر الأمواج» لاجتثاث المقاومة في الضفة، والتي يبدو أنها ارتدّت عليه «تسونامي» من العمليات الفدائية تمثّلت آخر موجاته في عمليّتَي القدس المحتلّة، وفي ظلّ إدراك الإدارة الأميركية جيّداً أن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية ستتسبّب بتفجير الأوضاع، هرع أركانها إلى المنطقة في محاولة لمنع اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة، خاصة قُبيل شهر رمضان الذي تتوقّع الدوائر الأمنية الغربية والإسرائيلية أن يشهد تصعيداً كبيراً. ومارس وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي التقى محمود عباس أوّل من أمس لقرابة ساعة في رام الله، ضغوطاً على رئيس السلطة لحمْله على تحسين أداء الأخيرة في مجال «التنسيق الأمني» مع دولة الاحتلال، واستعان في مهمّته تلك برئيسَي مخابرات الأردن ومصر، اللذَين سبقاه إلى مقرّ «المقاطعة»، والتقيا «أبو مازن»، في محاولة لتسهيل مهمّة الضيف الأميركي، وإقناع عباس بالقبول باقتراحاته، التي تتصدّرها خطّة أمنية أعدّها المنسّق الأميركي في القدس، الجنرال مايكل فينزل، وكانت طُرحت على تل أبيب ورام الله قبل أسابيع. وتبدو هذه الخطّة، على ضوء ما سُرّب منها، متّسقة تماماً مع استراتيجية واشنطن القائمة على إشعال الحروب وتأجيج الاقتتال بعيداً عن أراضيها أو أراضي حلفائها؛ إذ إنها تقتضي إعادة هندسة قوّات الأمن الفلسطينية، وإعدادها للقيام بعمليات في مناطق شمال الضفة وتحديداً مخيّم جنين والبلدة القديمة في نابلس أو أيّ منطقة فلسطينية أخرى تشهد «أعمال تمرّد»، والاشتباك وجهاً لوجه مع المقاومين، أو حتى مع المواطنين في حال احتجّوا على تلك الممارسات، مُغفِلةً تماماً كلّ جرائم الاحتلال واقتحاماته شبه اليومية للمدن الفلسطينية واستفزازاته المتكرّرة للمقدّسات.
هكذا، تقول واشنطن، بوقاحة وصلف كبيرَين، إن استعادة الهدوء والأمن لصالح إسرائيل، يجب أن تمرّ، من جهة، عبر حرب أهلية فلسطينية، ومن جهة أخرى، عبر تعزيز دور السلطة كوكيل أمني للاحتلال، الذي تريد أن تضْمن لجنوده أن لا يُقتلوا أو يصابوا خلال اقتحاماتهم المدن الفلسطينية، وأن لا تؤدّي اعتداءاتهم إلى ردّة فعل غاضبة يمكن أن تتدحرج إلى انتفاضة، وهو ما يساوق تماماً مطالب تل أبيب، ويجعلها راضيةً بالكامل عن الطرح الأميركي. وتَعكس هذه الخطّة جوهر الرؤية الأميركية لدور السلطة ووظيفتها، بوصْفها مجرّد «مُقاولِ» خدمات أمنية، جرى تثبيت حدوده عقب الانتفاضة الثانية، عبر إعادة بناء الأجهزة الأمنية التي كانت دُمّرت تماماً، وإخضاعها لعمليات تدريب وتحوير في عقيدتها الأمنية وفق برنامج قاده الجنرال كيث دايتون، مع إغفال طرْح أيّ برامج أو خطط سياسية.
تقول واشنطن، بوقاحة وصلف كبيرَين، إن استعادة الهدوء والأمن لصالح إسرائيل، يجب أن تمرّ عبر حرب أهلية فلسطينية


وفي هذا المجال، يلفت مدير «مركز يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، سليمان بشارات، إلى أن «الولايات المتحدة تتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية حول القضية الفلسطينية، والتي تتمحور حول كوْنها قضية أمنية، بعيداً عن أيّ جوانب سياسية»، مضيفاً، في حديث إلى «الأخبار»، أن «القضية الفلسطينية التي كان يطلَق عليها الصراع العربي - الإسرائيلي قديماً، جرى تقزيمها إلى صراع فلسطيني - إسرائيلي، والآن تُقزَّم مرّة أخرى من قضية سياسية إلى قضية أمنية». ويشير بشارات إلى أن «الولايات المتحدة تنظر إلى السلطة، منذ نشأتها، بوصْفها سلطة حُكم واقع وليست إدارة سياسية، وهذا التوجّه جرى تعزيزه في أعقاب الانتفاضة الثانية حين تمّ تدمير جميع مقرّاتها ومنشآتها السياسية والأمنية، وحتى اللحظة يجري تهميش التعامل معها كمؤسّسات أو دولة أو نظام أو كيان سياسي، وإنّما يتمّ التعامل معها من منظور خدماتي بحت أو من منظور أمني بحت، وهذا ما تُظهره الخطّة». ويُذكّر بأن «الكثير من البرامج والمشاريع التي مُوِّلت أميركياً، كانت تصبّ في صالح إعادة تغيير العقيدة الأمنية لأبناء الأجهزة الأمنية، حتى يتمّ تغيير مفاهيم الهوية الفلسطينية، بما يصبّ في إطار عمليات الضغط المباشر على السلطة ككيان سياسي لتفريغه من محتواه، في الوقت الذي كان فيه الاحتلال يكرّس رؤيته لِما يريد أن تكون عليه الضفة الغربية، بخضوعها لسيادتها».
من جانبه، يستبعد الخبير الأمني الفلسطيني، محمد المصري، قبول السلطة بالخطّة الأميركية، واصفاً هذه الأخيرة بأنها «عبارة عن أفكار متناثرة لا تصل إلى مستوى خطّة»، معرباً عن اعتقاده بأن «الأميركيين لم يقدّموا مخرجاً لإنهاء حالة التصعيد، يمكن أن يَقبل به الفلسطيني». ويرى المصري أن «المَخرج الذي يمكن أن يَقبل به الفلسطينيون، يتمثّل في وقْف تغوّل المستوطِنين، وإنهاء إعدامات المواطنين، والتوقّف عن اقتحام الأقصى، ووضع حدّ للاستيطان، وعدم اقتحام المناطق الفلسطينية، وهذه الأمور يمكن أن تَفتح آفاقاً للحديث عن خفْض التصعيد، أمّا بالنسبة إلى الحلّ، فإن ذلك يحتاج إلى أفق سياسي». ويَعتبر أن «دخول الفلسطينيين في مواجهة في ما بينهم لأن الأميركي أو الإسرائيلي أو أيّ طرف آخر يحتاج إلى ذلك، بهدف كبْح جماحهم والسيطرة عليهم، لا يحدث بهذه الطريقة»، مضيفاً أن «السلطة حتى الآن قادرة على تحمُّل الضغوط الأميركية والإسرائيلية والعربية، ولكنها بحاجة إلى التفاف شعبي وفصائلي حولها، وفق خطّة يجب أن يتمّ الاتفاق عليها، وعدم السماح بالاستفراد بالسلطة من قِبَل أميركا أو أيّ طرف آخر».