رام الله | لم يتأخّر الردّ الفلسطيني على مجزرة جنين صباح الخميس الماضي، فجاء متسلسلاً موزَّعاً على جغرافية فلسطين التاريخية، بادئاً بإطلاق صاروخَين من قطاع غزة صوب عسقلان، ومتوَّجاً بعمليّتَي القدس وسلوان الفدائيتَين، واللتَين تبعتْهما سلسلة عمليات إطلاق نار في الضفة، كان آخرها مساء السبت في أريحا وأخرى قرب قلقيلية. وكما كان متوقَّعاً، شكّلت مجزرة جنين التي ارتقى خلالها 10 شهداء ونحو 20 جريحاً بعضهم في حال الخطر الشديد، نقطة مفصلية في حالة الاشتباك القائمة في الضفة الغربية المحتلّة، وهذا ما ظهر في الردود الفلسطينية التي أعقبت المذبحة، والتي يمكن في حال تدحرُج الأوضاع إلى ردود إضافية متضادّة، أن تُفضي إلى حرب شاملة مفتوحة. ووجّهت سلسلة عمليات الردّ الفلسطيني التي بدأت في مستوطنة "نيفيه يعقوب" في القدس المحتلّة، وانتقلت بعدها إلى سلوان، ضربة قوية لحكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرّفة، وهو ما اتّضح في الهجوم الذي شنّه المستوطِنون على وزير "الأمن القومي" المتطرّف، إيتمار بن غفير، خلال زيارته مكان الهجوم الأوّل، غير المسبوق منذ سنوات، والذي وقَع في قلب القدس المحتلّة، ضارباً عُرض الحائط بكلّ الاحتياطات الأمنية والاستخبارية التي اتّخذتها دولة الاحتلال إثر مجزرة جنين، لتأتي عملية سلوان إثر ذلك وتُلقي بثقل إضافي على رأس حكومة نتنياهو والأجهزة الأمنية، نظراً إلى حالة الاستنفار والتأهّب التي تلت ضربة "نيفيه".ورسّخ هجوم القدس جملة حقائق على الأرض، أهمّها أن ديناميات الشارع لا ترتبط بالحسابات والتحرّكات السياسية، وأن التصعيد سيقابَل دائماً بالتصعيد، إذ إن زيارة نتنياهو للأردن، ومحاولات احتواء التوتّر وتحديداً في القدس، وتصعيد الضغط على السلطة الفلسطينية، ومن ثمّ دعوات "المجتمع الدولي" إلى التهدئة، وأيضاً زيارات أركان إدارة جو بايدن للمنطقة ومطالباتهم بالحفاظ على "الوضع القائم"، بدت كلّها يوم الجمعة بلا قيمة. كذلك، أكد الهجوم، مرّة أخرى، نجاعة العمليات الفردية، وقدرتها على ضرْب عمْق الأمن الصهيوني وإثبات محدودية قوّته، خصوصاً أن المنفّذ تمكّن، على رغم الاستنفار الأمني الكبير، من الوصول إلى منطقة حسّاسة، والقيام بما قام به، ومن ثمّ الانسحاب، من دون أن تستطيع شرطة الاحتلال من الوصول إلى المكان إلّا بعد 20 دقيقة، تنقّل خلالها الفدائيّ بأريحية، وأطلق النار بشكل مباشر على المستوطِنين من مسدّسه الشخصي، وقام بتبديل مخزنَين من الرصاص، قبل أن يشتبك مع عناصر الشرطة على حاجز بعيد عن المكان. وبالقدْر الذي عمّت به الفرحة الشارع الفلسطيني، جاء الشعور بانعدام الأمان لدى الإسرائيليين على الرغم من تواجُد الآلاف من عناصر شرطة الاحتلال في المدينة، وتسلُّح المستوطِنين أنفسهم الذين انفلت عِقالهم في القدس والضفة، وشنّوا سلسلة هجمات على ممتلكات الفلسطينيين، منذ وقوع العملية الأولى حتى فجر الأحد، وسط غضبهم من حكومة نتنياهو – بن غفير، اللذَين لم تبدّد كلّ التهديدات التي أطلقاها معالم الهزيمة عن وجهَيهما.
وتكتسب عملية القدس أهمّية استراتيجية في توقيتها ومكانها ونتائجها؛ فهي من ناحية عمّقت مأزق نتنياهو وحكومته، وتحديداً أمام جمهورها من اليمين الذي اتّهمها بالفشل، في وقت استمرّت فيه الاحتجاجات الداخلية المطالِبة برحيل الائتلاف الحاكم، وتواصَل الرفض الدولي (الظاهري على الأقلّ) لبعض أركانه من مِثل بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. ويُضاف إلى ما تَقدّم، تدهوُر العلاقات مع السلطة الفلسطينية وبعض دول المحيط مثل الأردن، وحالة الغليان في الشارع الفلسطيني الذي بات أقرب من أيّ وقت مضى إلى الانفجار، والتحرّك الأميركي الدبلوماسي للحفاظ على التهدئة ولجم أيّ فرص للتصعيد. وبالتالي، فإن كلّ ذلك يضع حكومة نتنياهو أمام خيارات أحلاها مرّ: فإمّا أن تتجه إلى تهدئة الأوضاع، وبالتالي الدخول في مواجهة مع جمهور اليمين المتطرّف وأحزابه الفاشية، أو تذهب إلى تصعيد لا يستطيع أحد معرفة ارتداداته. وفي أوّل جلسة لحكومة العدو في أعقاب عمليتَي القدس، أعلن رئيس الوزراء أنه "أوعز إلى رئيس هيئة الأمن القومي بدراسة مزيد من الخطوات لمواجهة العملية الإرهابية"، مؤكداً أن "الجيش أعدّ نفسه للمواجهة"، مهدِّداً بأن "ردّة الفعل الإسرائيلية على الإرهاب ستكون شديد وقاسية". وأضاف أن "التنظيمات الإرهابية تسعى للقضاء علينا، ولذا نحن مضطرّون للتكاتف والتعاضد من أجل التغلّب عليهم". وفي محاولة لإظهار نجاعة حكومته على المستوى السياسي، أشاد بـ"الإدانة" التي صدرت عن بعض الدول لهجوم الجمعة، قائلاً: "أَشكر رئيس الولايات المتحدة، صديقي جو بايدن، الذي تحدّث معي وأعرب عن تعازيه وصدمته من هذا العمل المروّع. كما أَشكر العديد من القادة الآخرين، بمن في ذلك من الدول العربية، لوقوفهم إلى جانب إسرائيل في هذا الوقت. كلّنا نصلّي من أجل شفاء الجرحى المصابين".
تشي مسارعة حكومة الاحتلال إلى اتّخاذ إجراءات مضادّة ردّاً على عملية القدس، بالمعضلة الكبيرة التي تعانيها


وتشي مسارعة حكومة الاحتلال إلى اتّخاذ إجراءات مضادّة ردّاً على العملية، بالمعضلة الكبيرة التي تعانيها، ومحاولتها تهدئة غضب المستوطِنين، وهو ما يَظهر أيضاً في استعجال تنفيذ تلك الإجراءات، التي تَمثّل بعضها في إغلاق منزل عائلة الشهيد خيري علقم تمهيداً لهدمه. وجاء هذا بعد ساعات قليلة فقط من قرار "الكابينت" سلْب عائلات منفّذي العمليات بطاقات "الهوية الإسرائيلية" وحقوقاً أخرى (من المزمع أن يتمّ تشريع قانون بذلك)، وانتزاع امتيازات إضافية من "مؤسّسة التأمين الوطني"، وتسريع منْح تراخيص السلاح لآلاف المستوطِنين، والعمل على توسيع المستوطَنات، وتعزيز قوّات الشرطة والجيش، بالإضافة إلى تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف الفلسطينيين وجمْع السلاح غير المرخّص. على أن عملية "نيفيه يعقوب" تشكّل نموذجاً ملهماً للاقتداء به، وهو ما يمثّل إحدى أكثر الحقائق إقلاقاً للمنظومة الأمنية والاستخبارية الصهيونية، خصوصاً أن الاستلهام المتوقّع سرعان ما تَحقّق جانب منه في هجوم سلوان، ومن المحتمل جدّاً أن يتكرّر في الأيام المقبلة. أيضاً، تَدفع العملية نحو تصعيد الاشتباك، على قاعدة أن جرائم الاحتلال لا يمكن أن تمرّ، وأن المقاومة في الضفة يجب أن تتوسّع وتتعمّق وتزداد قيمة نوعية، من دون السماح بالقضاء عليها، ومع الحفاظ على المعادلات التي أفرزتْها معركة "سيف القدس" لناحية تحصين المسجد الأقصى، فضلاً عن لجم العدو عن استهداف الحركة الأسيرة؛ وفي ما تَقدّم كلّه ملفّات كانت بدأت الحكومة الإسرائيلية، بالفعل، تعبث بها بتهوّر.
وبالتزامن مع التصعيد في الضفة، تعيش السجون الإسرائيلية تصعيداً لا يقلّ خطورة، بدأتْه حكومة الاحتلال، بتوجيهات من بن غفير، بهدف تفكيك بنية الحركة الأسيرة، التي أعلنت نيّتها مواجهة تلك الإجراءات بمعركة مفتوحة، لن تبقى فيها وحيدة، إذ سرعان ما ستنتقل شرارتها إلى خارج القضبان، وقد تصل إلى مستويات عالية من الانفجار. وتدرك فصائل المقاومة الفلسطينية، على ضوء ذلك، أن المواجهة العسكرية مع العدو قادمة لا محالة، وسقفها الزمني الأعلى قد يكون شهر رمضان المقبل. وفي هذا الإطار، حذّر رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، من أن "المنطقة ذاهبة إلى تصعيد غير مسبوق"، مؤكداً أن "المواجهة لن تبقى داخل السجون إثر قمْع إدارات المعتقَلات للأسرى"، بينما لوّحت حركة "الجهاد الإسلامي"، خلال العدوان الأخير على مخيّم جنين، بدخول قطاع غزة في معركة مفتوحة، ونقلت رسائل إلى الوسطاء بالمعنى المذكور. ونبّه القيادي في "الجهاد"، داوود شهاب، بدوره، قبل أيام، إلى "أنّنا مقبلون على مواجهة مفتوحة وواسعة في حال لم يقف الجميع عند مسؤولياته، ويوقف هذه الحكومة ويضع حدّاً لنزواتها الفاشية".
وعلى ضوء معركة "سيف القدس"، فإن فصائل المقاومة، إذا ما قرّرت خوض مواجهة جديدة، فإنها ستحرص على أن تختار الزمان والمكان المناسبَين، وهي لديها القدرة والجرأة للقيام بذلك على غِرار ما حصل قبل حوالى عام ونصف عام. وإذا أُخذ في الاعتبار ما نشره الإعلام العبري قبل أيام، من أن "كتائب القسام" أعلنت حالة الاستنفار لدى مُقاتليها لزيادة غلّتها من الجنود الأسرى، فإن عملية مفاجئة للمقاومة من هذا النوع قد تكون شرارة للمواجهة، شأنها شأن قصْف تل أبيب أو القدس المحتلّة مثلما جرى في أيار 2021. وفي حال قُدّر لمواجهة مفتوحة أن تقع في غضون الأسابيع المقبلة على ضوء التصعيد الحاصل، فإنها بالتأكيد لن تقارَن بـ"سيف القدس"، نظراً إلى التطوّر والتراكم اللذَين أحدثتْهما المقاومة مذّاك وحتى الآن في ترسانتها العسكرية، خصوصاً لناحية إنتاج الصواريخ وتحسين دقّتها، وهو ما تشي به عشرات التجارب الصاروخية التي أُجريت خلال الفترة الماضية. ويُضاف إلى ما تَقدّم، اختلاف الوضع في الضفة؛ إذ ثمّة اليوم العديد من التشكيلات والمجموعات العسكرية التي يمكن أن تقضّ مضجع جيش الاحتلال، كما يمكن أن تتحقّق مخاوف المنظومة الأمنية الصهيونية من تمكُّن العديد من المقاومين من الوصول إلى الداخل المحتلّ وتنفيذ عمليات فدائية، إلى جانب احتمال انفجار الأوضاع في الداخل، بشكل أكثر زخماً وقوّة ممّا شهدتْه "هبّة الكرامة".
ولعلّ أكثر ما تخشاه إسرائيل في أيّ مواجهة كهذه، هو أن يتمّ توجيه مئات الآلاف من قِطع السلاح المنتشرة في أوساط الفلسطينيين في الداخل إلى عناصر الشرطة والجيش، مع ما يعنيه ذلك من وجود جيش صغير، سيلحق خسائر فادحة بصفوف قوات العدو، خاصة أن محاولات الاحتلال إغراق البلدات الفلسطينية بالمخدّرات والسلاح والجريمة، لم تنجح في جعْل أهلها ينسون قضيّتهم الوطنية، وهو ما بيّنتْه مثلاً أحداث مدينة اللد عام 2021. وفي هذا الإطار، حذّر ضابط الشرطة الاحتياط، مسؤول لواء الجنوب السابق أوري بار ليف، في 7 كانون الأول في حديث صحافي، من أن "أحداث أيار 2021 تُعتبر تجربة مصغّرة فقط عن المتوقّع حدوثه خلال الفترة القادمة، حيث يُنتظَر تفجّر الأوضاع في المدن المختلطة ومن دون سابق إنذار"، مضيفاً أن "المواجهات التي شهدتْها تلك المدن كانت عبارة عن مقدّمة فقط للسيناريو الأسود الذي تتوقّعه الشرطة في حال اشتعال الأمور من جديد، إذ ينتظَر تنفيذ فلسطينيّي الداخل عمليات دامية خلال مواجهات مستقبلية".