ليس بجديد ذلك النقاش الدائر حالياً حول اللامركزية السوريّة. فمنذ عقود طويلة، وهذا النقاش لم يتوقّف، وإنْ بنِسب متباينة وتسميات متعدّدة، متأثّراً بعدّة متغيّرات غالباً ما كانت محلّية، كالفجوة التنموية المتشكّلة جرّاء تبِعات سياسة «ثُنائية التنمية» المتّبَعة لسنوات طويلة، والتحوّلات السياسية والاقتصادية التي شهدتْها البلاد منذ فترة السبعينيات ولاحقاً في التسعينيات، ثمّ مطلع القرن الحالي. لكنه في المرحلة الأخيرة يكتسب بُعداً أعمق لسببَين أساسيَين: الأوّل، حدّة التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تركتها الحرب؛ إذ وفقاً لِما جاء في «البرنامج الوطني لمرحلة ما بعد الحرب»، فإن هذه الأخيرة «عمّقت خلل التفاوت التنموي بين المحافظات والمناطق بصورة كارثية، وألقت بأعباء كثيرة مستقبلاً على جهود التوازن التنموي، بالنظر إلى أن حجم الدمار الذي أصاب مقوّمات التنمية يختلف من محافظة إلى أخرى»؛ وأمّا السبب الثاني، فهو خروج مناطق هامّة عن سيطرة الحكومة، وتشكيلها إدارات خاصة بها مدعومة من جهات إقليمية ودولية. وبعيداً عن الرؤى والحسابات السياسية والنظرة إلى مصطلح المركزية واللامركزية، فإن البُعد التنموي للمصطلح، ومدى قدرته على النهوض بالأعباء التنموية الوطنية للمناطق السورية، يمثّل جوهر النقاش الحقيقي الملتزم بالمصلحة الوطنية، والذي يفترَض أن يَخلص إلى جملة استنتاجات من شأنها تطوير تجربة الإدارة المحلّية ومساعدتها على جسْر الهوّة التنموية القائمة بين الريف والمدينة، وبين الأقاليم نفسها، والأهمّ الدخول في مرحلة من إعادة بناء التنمية بشكل متوازن. وبحسب الاستشاري في التنمية المجتمعية والحوكمة، محمود رمضان، فإن «الظروف المحيطة بالموضوع اليوم تختلف تماماً عن كلّ المحاولات السابقة، ولذلك، فإن الطرح يتعدّى وظيفة اللامركزية الإدارية على أهمّيتها، في زيادة الفعالية الإدارية، وتحسين التخطيط التشاركي المحلّي، وتعظيم استثمار الموارد المجتمعية المحلّية والرأسمال المجتمعي المتشكّل منها ليكون فاعلاً في عملية إعادة التنمية. إنها آلية لاستعادة وحدة البلاد ونموّ السلطات المركزية والمحلّية معاً كعملية تعزّز نموّ كلّ طرف منها، كشرط لنموّ الأطراف الأخرى بشكل متوازن تدريجياً ضمن إطار وطني». ويشدّد رمضان، في حديث إلى «الأخبار»، على أن «اللامركزية هي مدخل للحلّ وليست الحلّ، وبالطبع يجب النظر إليها ضمن نهج مكاني ينظّم الحوكمة متعدّدة الطبقات، وإنشاء آليات موثوقة لتوزيع الموارد، والأهمّ من ذلك دعم إنشاء سلاسل القيمة والتدفّقات الاقتصادية بين المناطق، وأيضاً العمل على التثاقف ضمن الحيّز المكاني لتوليد معانٍ إيجابية وخطاب تصالحي، وبناء الإطار الوطني الداعم لظروف إعادة التنمية».

ثلاثة أدوار
تُصاحب طرحَ اللامركزية كثيرٌ من الرؤى المستنِدة في جوهرها إلى الموقف السياسي من الأزمة، وليس إلى الفهم التنموي الحقيقي للأدوار التي يمكن أن تقوم بها اللامركزية في مرحلة ما بعد الحرب. وهذه الأدوار، بحسب المستشار التنموي عمر عبد العزيز الحلاج، تتلخّص في ثلاثة هي: «الأوّل، خدمي بالأساس، ويتمثّل في تحديد أولويات الاستثمار في الخدمات والبنى التحتية اللازمة لعملية التنمية؛ والثاني يتمثّل في تحريك الطاقات المجتمعية المحلّية واستقطاب الاستثمارات لتخلق فرص عمل وسلاسل قيمة تُستخدم فيها القيم المضافة لتوليد مضاعفات اقتصادية تدعم الاقتصاد المحلّي، وتوفّر المزيد من الواردات الضريبية من أجل تعزيز دور المحلّيات في توفير المزيد من الخدمات؛ وأمّا الدور الثالث والخفيّ فيتمثّل في تقريب مصالح المجتمع المحلّي وتوجيهها لدعم رؤى مشتركة لمستقبل المحلّيات، على اعتبار أن المجتمعات المحلّية ليست متجانسة، وما يناسب بعض فعالياتها الاقتصادية كالتجارة قد يضرّ بفعاليات أخرى كالصناعة، وما يناسب احتياجات النُخب قد يتعارض مع احتياجات القواعد»، وفق ما يوضح الحلاج في حديث إلى «الأخبار».
تصبح هذه الأدوار أكثر صعوبة في الحالة السورية. فإلى جانب المشكلات المعروفة، والتي كانت تُرحَّل من مرحلة إلى أخرى، تَحضر مجموعة جديدة من التحدّيات غير التقليدية، بدءاً من المتغيّرات الديموغرافية الهائلة التي عمّقت من حجم المشكلة السكّانية في البلاد، مروراً بالتراجع الكبير الذي شهدته مؤشّرات رأس المال الاجتماعي، وصولاً إلى تبخّر مؤشرات تنموية احتاج تحقيقها إلى عقود طويلة من الزمن. وهذا ما يدعو الحلاج إلى الإعراب عن اعتقاده بأن «النموذج المركزي لإدارة التنمية الاقتصادية لن يستطيع أن يتجاوز الإشكالات التي فرضتها الأزمة على الاقتصاد السوري. فالاعتماد على الدولة في تمويل الخدمات لن يكفي إلّا لسدّ ثغرات أساسية جدّاً، ولن يسمح بإعادة الإعمار، ناهيك عن التعافي والتنمية. والكلام عن عدالة التوزيع في المركز، لا سبق تاريخياً له لا في الحالة السورية ولا في غيرها. فإذا نظرنا إلى توزّع أَسرّة المشافي على المواطنين في المحافظات السورية، وهي وظيفة بقيت مركزية بامتياز، لوجدْنا فروقات كبيرة بينها، بينما وظيفة بناء المدارس التي تمّ تكليف المحلّيات بها نالت حظّاً أكبر من العدالة في التوزيع». ولِمن لم يفهم عقبات سوء العدالة في التوزيع على مستقبل البلاد، يتوجّه الحلاج بالدعوة إلى مراجعة «الخرائط التنموية التي أُنتجت من خلال الإطار الوطني للتخطيط الإقليمي، ولْينظر إلى عدم العدالة في توزيع الخدمات التنموية ثمّ لينظر إلى خريطة الحرب، وسيجد الإجابات الكافية في التراكب شبه التامّ بينهما».
والتوجّه نحو تعزيز أدوار اللامركزية لا يتوقّف عند منْح الصلاحيات للمحلّيات، والتي أقرّ العديدَ منها قانون الإدارة المحلّية الصادر عام 2011 وبقي معظمها من دون تطبيق بحسب ما جاء في «البرنامج الوطني لمرحلة ما بعد الحرب»، إنّما ثمّة حاجة إلى رؤى واستراتيجيات تساعد المحلّيات والمركز على السير في طريق التنمية. وفي هذا الإطار، يبيّن رمضان أنه و«من خلال دراسة حول تأثّر المدن السورية الكبيرة والمتوسّطة والصغيرة بالصراع، تمّ تصنيفها إلى أربع فئات، هي: المدن المستقرّة، الجُزر ذات الأهمّية الثانوية بالنسبة إلى الاستقرار، المدن التي تقاوم تأثير الصراع، المدن التي دمّرها الصراع». ويَتوقّع أن «تمرّ عملية تحديد مرجعيات مشروعة للحيّز المكاني، وإسنادها إلى الإطار القانوني المحلّي تحت الوطني والوطني، بمراحل ثلاث: مرحلة استعادة الحياة واستمرارها، مرحلة التعافي المكاني والاجتماعي والاقتصادي، ومرحلة تكوين مفهوم مكتمل للمدينة والتجمّعات العمرانية وحواملها التنموية».

نقاط الخلاف كثيرة
ربّما أكثر ما يثير الخلاف في نقاش مستقبل اللامركزية السورية أو إعادة النظر في تجربة الإدارة المحلّية، هو الغوص في تفاصيل تتعلّق مثلاً بمسؤولية المركز والسلطات المحلّية عن إدارة واستثمار الموارد والثروات الموجودة في المحافظات، والتوقيت الذي يَعتبره فريق من المهتمّين غير مناسب حالياً في ضوء تركة الحرب الثقيلة.