تظهر الأمومة في فلسطين كحالة استثنائية خارقة للقواعد الطبيعية، وتعزى هذه الاستثنائية إلى حالة المقاومة المستمرة للمجتمع الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني. ففي حين تعكس البروباغندا الغربية عنا صورة شعب عدمي يهوى الموت، واتهام أمهات الشهداء والأسرى بأنهنّ يرمين بأبنائهن للموت، إلا أن ما لا يستطيع فهمه الناظر إلى المجتمع من الخارج، أن «زغرودة» أمّ لابنها الشهيد كأنّها تزفّه لمثواه الأخير لا تقلّل من غريزة الأمّ في حماية أبنائها أطفالاً كانوا أو شيوخاً، فمعادلة البقاء في فلسطين تختلف عن غيرها، وهذا ما ينعكس على الأمهات الفلسطينيات، إذ إن على كاهل غريزة حماية فلذات الأكباد مسؤوليات لا توجد إلا في المجتمعات المستعمَرة.إن تجربة الأمومة في فلسطين مرتبطة بالضرورة بالحياة غير العادية تحت نير الاحتلال، فالأمّ لا تجردّ نفسها ذاتياً من غريزتها، لأن الانخراط بالعمل المقاوم وتنشئة جيل تربيه أمهاتنا على العنف الثوري، أو تساهم في وجوده وتطوره كحالة عن طريق احتضان أبنائها المقاومين ودعم صمودهم في إطار الحالة الاستثنائية الفلسطينية. فهنا تنبع من الغريزة الفلسطينية في البقاء في معركتها ضد آلة الإبادة الصهيونية، وهي أبسط تفنيد لكل الادعاءات والمغالطات ضد الأمومة في فلسطين.
إبان انتفاضة الأقصى وتحديداً سنة 2004، أجرت الباحثة الفلسطينية ناهد حبيب الله عدة مقابلات مع أمهات فلسطينيات فقدن أبناءهن خلال الانتفاضة، تشترك كل الأمهات في تلك المقابلات في مشاعرهنّ التي سيطر عليها مزيج من الحزن والغضب والأسى والفقد والرغبة بالثأر، وهو يمثل التناقضات التي تعيشها الأمهات حيث تقول إحداهن إن «الزغرودة» تمثل الكرامة والشرف بالنسبة إلينا، أي أنها ليست احتفالاً بموت أبنائنا حين نشيعهم. وتقول أمّ شهيد أخرى إنها لن تمنع ابنها من الخروج لمواجهة المحتل، لأن ذلك السبيل الوحيد للتحرير، وتحثّ الفلسطينيين على استمرار الانتفاضة من أجل التخلص من سيطرة الاحتلال، وإكراماً لدماء أبنائنا الشهداء.
افتتحت حبيب الله دراستها بالحديث عن وعي الأجيال الفلسطينية منذ الطفولة، فالفلسطيني يكبر وهو يشاهد بشاعة وجود المحتل واقتحامه لقراه ومدنه، لتصبح مواجهة المحتل حتمية، وحين تنتهي إحدى المواجهات بنعش لشهيد فلسطيني، نرى كيف أن الاحتلال المسؤول الأول عن تجريد أمهات الشهداء من حقهن في حماية أبنائهن من الموت أو الأسر. من خلال المقابلات، استخلصت حبيب الله ثيمات مشتركة بين أمهات الشهداء والأسرى: أولاً غضبهنّ العارم من تهمة إرسال أبنائهنّ للموت، ثانياً شعورهنّ بالعجز عن حماية أبنائهنّ، حيث يختطف الموت أطفال فلسطين في كل مكان، سواء في الطريق إلى المدرسة أو في ملعب كرة القدم، وأثناء المرور على حواجز الاحتلال، ثالثاً وهي معضلة تواجهها الأم الفلسطينية بين تربية الأبناء تربية وطنية تحثّ على النضال ضد محتل بلادهم، وبين الثمن الغالي لهذه التربية وهو فقدان أطفالهنّ. تشير حبيب الله إلى أن هذه المعضلة هي ما تؤسس للثيمة الرابعة وهي في أن أمهات الشهداء والأسرى يجدن السلوى والعزاء باللجوء إلى الدين، متمسكات بإيمانهن بأن تضحية أبنائهنّ لوجه الله والوطن، وأن مصيرهم الجنة. وعليه، تكاد جميع الأمهات يرون في شهادة أبنائهن عرساً.
تضيف حبيب الله، وهي الدكتورة في الجامعة الأميركية في جنين، إن أمهات الشهداء يتشاركن التجربة ذاتها، فمن ناحية تأثير المجتمع، تؤكد الباحثة أنه على الرغم من أهمية دعم المجتمع لأم الشهيد إلا أن هذا الدعم في كثير من الأحيان يضيّق على الأمهات حاجتهنّ إلى البكاء والحزن ورثاء الأبناء، سواء كان الابن شهيداً أو لا، فلأمّه الحق في نعيه بالبكاء عليه. كما لاحظت حبيب الله تشارك جميع الأمهات في التأكيد على مثالية أبنائهن، وبأن الشهيد خيرهم وأكثرهم ذكاء ووسامة، كما أن جميع أمهات الشهداء يصفن بدقة ما حدث لأجساد أبنائهن، كعدد الطلقات التي اخترقت أجسادهم، وطريقة الاستشهاد وما الأثر الذي تركته الطلقة على جسم الشهيد.
تعكس هذه المقابلات وتوثيق مواقف أمهات الشهداء استمرارية ثقافة الشهادة واستمرار احتضان الأمهات لعنف أبنائهن الثوري، واليوم وبعد قرابة العشرين عاماً على دراسة حبيب الله، لا تزال الأم الفلسطينية تدلي بنفس الشهادات عن فقدان الأبناء، والثيمات والتجارب ذاتها. ففي ظل حالة استنهاض المقاومة التي نعيشها منذ سنوات والتي أفشلت محاولات التسوية، لا تزال الأم الفلسطينية أبرز أيقونات التحرر التي يعرفها المجتمع الفلسطيني، وهنا أستذكر أحد الرفاق الذي قال خلال نقاش عن دور الأمهات الفلسطينيات في الصمود، إن من يعيش خارج مجتمعنا وخارج تركيبته المعقدة قد يجهل أن للأم الفلسطينية الدور الأكبر في تنشئة الأبناء على المقاومة والصمود. ففي حين يقال في المجتمعات العربية إن «الولد طالع لأبوه» أو «فرخ البط عوام» نروي في فلسطين قصة أم الشهيد والأسير.

عن أمّ ناصر أبو حميد
لطيفة الناجي من مخيم الأمعري، هي أمّ لأسير محرر وثلاثة أسرى محكومين بالمؤبد وشهيدين، أحدهما ناصر أبو حميد «الأسد المقنع» الذي استشهد في السجن نتيجة الإهمال الطبي المتعمد. لم تخف أمّ ناصر دموع قهرها عنا في وداع المناضل الشهيد ناصر، ومع هذا لا تزال أمّ ناصر مثال الأم الصلبة التي ربّت المناضلين، تحدّث عنها الشهيد باسل الأعرج كمثال فشل الاحتلال في تحويلها إلى «فخ أمني حقيقي» كما قال، ثم يروي كيف قالت لابنها: «يما هاي مواقع الرجال، إذا فتحت فمك ترجعش عالدار، طلعت زلمة ارجع زلمة» لتتحول أمّ ناصر التي تنتظر أبناءها على مائدة الطعام وهي تقبّل صورهم وتحملها من محاولة «لتحطيم الدفاعات النفسية لأبنائها» إلى أعظم أيقونات التحرر التي نعرفها جيداً اليوم، والتي دائماً ما تدعم صمود جميع الأمهات، تحدثت أم ناصر في إحدى المقابلات التلفزيونية عن أهمية صمود الأمهات لحثهن على الثبات على الرغم من صعوبة التجربة ومرارتها، لتقول بعدها إنها لو تحرر جميع أبنائها ستظل تهتم بقضية الأسرى وتضيف «أنا أمهم كلهم ما بتخلى عنهم».

عن أمّ ناصر أبو سرور
مزيونة أبو سرور من مخيم عايدة في بيت لحم، هي أمّ عميد أسرى بيت لحم ناصر أبو سرور. تحمل أم ناصر مفتاح العودة فتتحدث دائماً عن نكبتنا المستمرة، ودائماً ما تروي قصة إصرارها في العودة إلى قريتها «الخضر» التي هجّرت منها، وينعكس إصرارها وذاكرتها في عمل ابنها المناضل ناصر، تروي أم ناصر معاناتها في انتظار ابنها ناصر في مقابلة تلفزيونية، فبكت شوقها له حتى أصابتها الجلطة، ثم تضيف إنها تدعو له «ليل نهار، وأنا مش بس بدعي لناصر، بدعي لجميع الأسرى» لتعكس ارتباط الأمهات الفلسطينيات برفاق أبنائهن في سجون الاحتلال. من خلال أمّ ناصر وعلاقتها بالأسرى، وعلاقة ابنها ناصر بأمهات الأسرى رفاقه، نرى كيف أن الأسرى وذويهم كالجسد الواحد المتماسك في وجه السجان الذي يحاول كسر صمودهم، فنرى ناصر أبو سرور يرثي من سجنه أمّ عميد الأسرى السابق، الأسير المحرر كريم يونس، بقصيدة «اليوم ماتت قضية وكريم في حبسه»، ليكون مثالاً عظيماً على التحام الأسرى بعضهم ببعض وترابطهم في وجه مرارة الأسر وحرب السجون.

عن أمّ عبد الحميد أبو سرور
أزهار أبو سرور من مخيم عايدة في بيت لحم، هي أمّ الشهيد البطل عبد الحميد أبو سرور، منفذ عملية تفجير حافلة ١٢ الإسرائيلية في القدس المحتلة. وضعت أزهار طفلها عبد الحميد وأعطته اسم جده الشهيد المناضل عبد الحميد أبو سرور الذي ارتقى في غارة إسرائيلية في بيروت سنة 1981. تروي أم عبد الحميد قسوة الفقدان في كل مقابلة ولقاء، إلا أنها تعود وتذكّر بأن ابنها دائماً ما كان يتابع قصص الشهداء وسيرتهم، هي كغيرها من أمهات الشهداء والأسرى على الرغم من أنها تعيش مزيجاً من الحزن والأسى والفخر في آن واحد، كنت قد التقيتها شخصياً ورأيت صلابتها في إحدى الوقفات المطالبة باسترداد جثامين الشهداء، حيث تصدرت الصفوف الأولى للمطالبة باسترجاع جثمان ابنها. أذكر انبهاري وذهولي بقوتها في ذلك اليوم، ولربما صمودها أمام الحاضرين أجاب عن تساؤلاتي عن قوة الشهداء أنفسهم ومن أين يستمدونها، فحين تقابل أمّاً مثل أزهار أبو سرور، تدرك أنها كانت مصدر قوة لابنها الفدائي.

أخيراً، عن خالدة جرار
تعرّفنا خلال مسيرة خالدة جرار النضالية على نضالات المرأة الفلسطينية في العمل السياسي، فعرفناها في الشارع وفي الأسر. خالدة جرار كانت بمثابة الأم لرفيقاتها الأسيرات الأصغر منها سناً داخل السجن، هي التي خاضت معركة من أجلهنّ ولحقهنّ في العلم بناءً على اقتناعها التام بأن تلك المعركة الثقافية والعلمية تكسر محاولة الاحتلال في عزل الأسيرات عن العالم الخارجي بهدف إضعافهنّ. ثم عرفنا خالدة جرار الأسيرة التي فقدت ابنتها سهى، وهي في السجن لتودعها بعد خروجها «بوردة نمت في تراب الوطن» وتوصي عائلتها ورفاقها بالصمود والثبات وهي تردد «أنا قوية، دموعنا هي مجرد دموع إنسانية» فتؤكد دائماً أن الفلسطينيات لا ينكسرن. على الرغم مما عاشته خالدة جرار من مرارة الفقد وهي بعيدة عن ابنتها سهى، روت الأسيرة المحررة حلوة حمامرة عن صمود أمّ يافا قائلة «أمّ يافا قوية، تماسكت عشان البنات، أبداً ما انهارت» فتضع أمام أعيننا تجربة فلسطينية أخرى صامدة في معركتها كثائرة وأمّ ومربية، لتصبح أيقونة تحررية يحتذى بها للكل الفلسطيني وللنساء الفلسطينيات تحديداً.

بالعودة إلى معنى الأمومة في فلسطين، تُكسر قواعد الطبيعة التي يعرفها العالم حين نرى أمهات الشهداء يدفن أبناءهن، فيتسابقن لحمل نعش الفدائي الذي خرج من رحمهن كما رأينا أمّنا هدى جرار تحمل نعش ابنها الشهيد إبراهيم النابلسي كأنها جبل لا ينهار، وحين نرى معنى الصمود والتحدي في أمّ تقوّي ابنها الأسير على السجان، وهو الشعور الغريزي الاستثنائي الذي لا يعرفه من لم يعشه.
تسطّر الأمهات الفلسطينيات أعظم النضالات في سبيل التحرر، فإنهنّ على الرغم مما يعشنه من ألم الفقد والشوق والأسى، يصنعن لنا مثالاً يحتذى به كنساء فلسطينيات لنستمد من صلابتهن القوة لإكمال مسيرة التحرير. الأمهات هنّ من يحملنَ ويربينَ الشهداء والأسرى على صراط فلسطين المستقيم من دون أن ينكسرن، ليحملننا جميعاً بعدها. هنّ يحملننا في كل محطة على طريق التحرير، يخلقنَ لنا حاضنة شعبية متماسكة، لتصبح أم أسير واحد أمّهم جميعاً، وتصبح أمّ شهيد واحد أمّهم جميعاً. وأمام كل الأمّهات اللاتي نعرفهنّ جميعاً، وأمام عذاباتهنّ ودموعهنّ وصلابتهنّ ننحني لنؤكد أنهنّ مدرسة حقيقية للتحرر.