على رغم مرور أكثر من أسبوعَين على اجتماع وزيرَي الدفاع السوري والتركي في موسكو، إلّا أن دمشق لا تبدو في عجلة من أمرها لإعادة تطبيع علاقاتها الاقتصادية مع أنقرة. فالأولوية في هذه المرحلة هي لمعالجة تداعيات التدخّل العسكري والسياسي التركي في مجريات الأزمة السورية، وحالما يتوصّل الطرفان إلى اتّفاق حيال ذلك، يصبح متاحاً الحديث عن سيناريوات التعاون الاقتصادي بين البلدَين. ولذا، فإن المؤسّسات الحكومية المعنيّة مباشرة بجوانب العلاقات الاقتصادية مع تركيا، وبحسب ما حصلت عليه «الأخبار» من معلومات، لم تضع بعد تصوّرات محدَّدة لمستقبل هذه العلاقات، سواءً لجهة مصير الاتّفاقيات السابقة التي تمّ تعليق العمل بها بعد عام 2011، أو لجهة مجالات التعاون التي تُناسب الوضع الاقتصادي الذي تمرّ به البلاد حالياً. وعليه، فإن الحديث الدائر اليوم عن آفاق التطبيع الاقتصادي بين البلدَين، ليس أكثر من مجرّد تحليلات أو توقّعات، مرهون تَحقّقها بعدّة عوامل من بينها: تغيُّر خرائط السيطرة والنفوذ، المسار الزمني لإدارة الوضع الميداني ونقل السيطرة، الموقف من العقوبات الغربية المفروضة على دمشق، واحتياجات الأخيرة على الصعيد الاقتصادي. وبالعموم، يمكن تحديد أربعة قطاعات تفرضها العوامل الجغرافية والاقتصادية لتكون على سلّم أولويات التعاون الثنائي، وهي: تجارة الترانزيت وتسهيل حركة النقل، التبادل التجاري، التحويلات المالية، والاستثمارات المشتركة.
المعابر أولاً
لا تقتصر أهمّية إعادة تنشيط حركة النقل على اقتصادَي البلدَين، وإنّما تتعدّاهما لتشمل معظم اقتصاديات المنطقة، بالنظر إلى الموقع الجغرافي الهامّ لكليهما في ربْط أسواق الخليج بالأسواق الأوروبية وبالعكس، فضلاً عن انتعاش عمل الموانئ التركية على خلفية العقوبات الغربية المفروضة على الموانئ السورية، وتضرُّر مرفأ بيروت جرّاء الانفجار الذي تعرّض له عام 2020. ولذلك، فإن المصلحة المباشرة للدولتَين، وللمنطقة عموماً، تكمن في إعادة فتْح المعابر الحدودية بينهما، وتسهيل حركة نقل البضائع وتنقّل الأفراد. وفي هذا المجال، يبدي رئيس «اتّحاد شركات شحن البضائع الدولي»، صالح كيشور، تفاؤلاً بإمكانية السماح لشركات الشحن بالعمل بين سوريا وتركيا، والمرور عبْرهما نحو أسواق دول أخرى، متوقّعاً أن تعود حركة النقل أكبر ممّا كانت عليه في السابق.
لكن يبدو أن السماح بانسياب هذه الحركة مجدّداً لن يتمّ بالسرعة التي يتوقّعها البعض. إذ ثمّة مجموعة معطيات يجب أن تتحقّق على الأرض قبل أن تُعاود المعابر الحدودية عملها تحت إشراف الحكومة السورية، من قَبيل إلزام الفصائل المسلّحة المتواجدة في الشمال السوري بالانسحاب من المعابر الحدودية ومحيط الطرق الرئيسة، وضمان أمنها وعدم استهدافها. وتُضاف إلى ما تَقدّم ضرورة اتّفاق وزارتَي النقل في كلا البلدَين على آلية عمل المعابر ودخول الشاحنات والرسوم المتوجَّب عليها تسديدها؛ إذ إن العودة إلى العمل بالاتّفاقيات السابقة لم يَعُد مجدياً بالنسبة إلى دمشق، التي منحت آنذاك تسهيلات وإعفاءات خاصة للشاحنات التركية أثناء دخولها وعبورها الأراضي السورية، لم تحظَ بها مثيلاتها السورية من ِقَبل الحكومة التركية. وهذا سيكون أيضاً حال المبادلات التجارية، والتي ستنتظر هي الأخرى اتّفاقاً جديداً بين مؤسّسات البلدَين، قبل أن تجد سلعُ وبضائع كلّ بلد طريقها إلى أسواق البلد الآخر.
لا تقتصر أهمّية إعادة تنشيط حركة النقل على اقتصادَي البلدَين، وإنّما تتعدّاهما لتشمل معظم اقتصاديات المنطقة


وبحسب البيانات الإحصائية الرسمية، فإن الصادرات السورية إلى تركيا بلغت عام 2020 نحو 85.6 مليون دولار، فيما لم تسجِّل قيمة المستورَدات السورية من تركيا سوى 29 ألف دولار. أمّا في عام 2010، فقد كانت قيمة هذه الأخيرة حوالى 1.6 مليار دولار، بينما الأولى تجاوزت 625 مليون دولار. إلّا أن قاعدة البيانات التابعة للأمم المتحدة، والخاصّة بالتجارة الخارجية، تفيد، بناءً على بيانات وزارة التجارة التركية، بأن قيمة الصادرات التركية المتّجهة إلى سوريا في عام 2020، بلغت 1.6 مليار دولار، وهي صادرات شكّلت وُجهتَها الرئيسة الأراضي الخاضعة لسيطرة فصائل مسلّحة مدعومة من قِبَل أنقرة، في حين كان يُهرَّب جزء منها إلى الداخل السوري وبكمّيات ليست بقليلة، الأمر الذي يمثّل هاجساً لن تتردّد دمشق في طرْحه على الجانب التركي، لمعالجته وفق الاتّفاقيات التجارية التي سيتمّ العمل بموجبها.

سوق فرص مغرية
يُنظر إلى إعادة استئناف العلاقات الاقتصادية بين دمشق وأنقرة من منظور أشمل من مجرّد تسهيل عملية نقْل السلع وتنقّل الأفراد. ففي ظلّ العقوبات الغربية والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها سوريا، فإن السوق التركية يمكنها أن تتحوّل إلى مَنفذ اقتصادي هامّ يعوّض ما تمّت خسارته مع تفاقم الأزمة الاقتصادية اللبنانية. وفي هذا المجال، يرى الخبير المصرفي، عامر شهدا، أن «إيجابية مخرجات المفاوضات السورية - التركية، وانعكاس آثارها على الوضع الجيوسياسي الإقليمي، من شأنه أن يؤثّر إيجاباً على الوضع الاقتصادي السوري، ولا سيما لجهة انسياب البضائع والحوالات المالية». ويشدّد شهدا، في تصريح إلى «الأخبار»، على أنه «في مثل هذه الحالة، لا بدّ من إيجاد سيناريوات لبناء علاقات نقدية وغرف تقاص مع المصارف التركية، واستثمار التسهيلات الممنوحة لتجّار سوريين مقيمين وغير مقيمين في تركيا»، مضيفاً أن «الاتّفاقيات المصرفية ستتمحور حول الكيفية التي يتمّ بها تجميع الحوالات الواردة إلى سوريا من الخارج، وتحديداً الحوالات الفردية التي تشكّل 60% من مجموع الحوالات الواردة»، مبيّناً أن «مِثل هذه السيناريوات ستؤدّي إلى تخفيف الطلب على الدولار في السوق السورية، ليليه تخفيف عبء التمويل من خلال اعتماد تمويل المستورَدات من حسابات المستوردِين في الخارج».
في المقابل، وبعدما نجحت أنقرة، طيلة السنوات الماضية، في استقطاب استثمارات سورية صُنّفت في أكثر من عام على أنها الأولى في حجم الاستثمارات الأجنبية الواردة إلى تركيا، فإن المرحلة القادمة ستحمل لها أيضاً مزيداً من المكاسب الاقتصادية فيما لو قُدّر للعلاقات بين البلدَين أن تجد لها مساراً جديداً يفتح الباب أمام القطاع الخاص في كلَيهما للعمل والاستثمار المشترك. وما يعزّز ذلك التقدير حقيقة أن خريطة الفرص الاستثمارية في سوريا، باتت بحُكم ما تسبّبت به الحرب من دمار وخراب، تضمّ طيفاً واسعاً من الفرص المغرية، التي يمكن أن تثبّت أقدام مستثمِرين على قائمة إعادة الإعمار المنتظَرة انطلاقتها مع بلورة حلّ سياسي ينهي 12 عاماً من الأزمة.