رام الله | دخلت العقوبات الإسرائيلية ضدّ السلطة الفلسطينية حيّز التنفيذ، مع توقيع وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، يوم أمس، قرار اقتطاع 139 مليون شيكل من أموال المقاصة الفلسطينية، ردّاً على توجُّه السلطة إلى محكمة العدل الدولية. وبموجب القرار، سيتمّ تحويل 139 مليون شيكل من أموال السلطة إلى عائلات قتلى الاحتلال في العمليات الفدائية، على أن يُحسم هذا المبلغ من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل لرام الله شهرياً، وذلك استناداً إلى حُكم صدر، قبل ثمانية أشهر، عن نائب رئيس المحكمة المركزيّة في القدس، في ما يُعرف بـ«ملفات الإرهاب»، وجاء فيه أن «السلطة الفلسطينية هي المسؤولة عن هذه الحوادث، ومن ثمّ فمن الضروري دفْع تعويضات لعائلات» القتلى.وكانت «اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون الأمن القومي» (الكابينيت) قد صادقت، الخميس، على فرض عقوبات ضدّ السلطة الفلسطينية، ردّاً على ما سمّته «قرار الفلسطينيين خوض حرب سياسيّة وقضائيّة» ضدّ تل أبيب، مؤكدة أن «الحكومة الحالية لن تستقبل حرب السلطة بعناق، وستردّ عليها كلّما استدعى الأمر ذلك». وتشمل عقوبات «الكابينيت»، «تحويل قرابة 139 مليون شيكل من أموال السلطة (الضرائب) إلى المستهدَفين من عمليات الفلسطينيين»، و«حسم فوري لدفعات السلطة» إلى الأسرى الفلسطينيين وعائلات الشهداء في عام 2022، و«تجميد خطط بناء للفلسطينيين في المناطق ج»، و«سحب منافع لشخصيات مهمّة تقود الصراع القضائي السياسي ضدّ إسرائيل»، في إشارة إلى بطاقات vip والتسهيلات التي تُمنح لكبار مسؤولي السلطة. ووفق الإعلام العبري، فإن من بين الشخصيات التي ستطالها العقوبات، وزير الخارجية رياض المالكي، والمندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور، وزياد أبو عمرو، لكنها لن تطال الرئيس محمود عباس أو حسين الشيخ أو ماجد فرج. وبدأت إسرائيل تطبيق هذه العقوبات مع إعلان وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غلانط، مساء السبت، سحْب تصاريح الدخول من ثلاثة مسؤولين كبار في «مركزية» حركة «فتح»، هم: نائب الرئيس محمود العالول، عضو «اللجنة المركزية» عزام الأحمد ورئيس «المجلس الوطني الفلسطيني» روحي فتوح، على خلفيّة زيارتهم الأسير المحرّر، كريم يونس، في بلدة عارة في الداخل المحتلّ، فيما سُحبت بطاقة vip من وزير الخارجية، صباح يوم أمس.
وسيسارع سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، إلى تشريع ما يستطيعان من قوانين وقرارات ضدّ الفلسطينيين، بما يرضي شهوة اليمين المتطرّف ويلبّيها، اذ قال الأوّل إن العقوبات المعتمَدة «ليست سوى البداية»، مضيفاً إن «مَن يعمل ضدّنا سيدفع ثمناً باهظاً». لكنّ أطرافاً في حكومة الاحتلال، وتحديداً المستوى الأمني، لا تريد أن تصل العلاقة مع السلطة الفلسطينية إلى القطيعة بما يتسبّب بانهيارها، ولهذا، تروّج إسرائيل، خلف الكواليس وفي اتصالاتها مع السلطة، أن العقوبات المفروضة هي «لامتصاص الغضب»، وثنْي رام الله عن حراكها الدبلوماسي. ووفق «القناة 13» العبرية، تحدّث مسؤولون إسرائيليون كبار، خلال عطلة نهاية الأسبوع، إلى كبار مسؤولي السلطة المقرّبين من «أبو مازن»، ونقلوا إليهم رسالة تطالبهم بـ«التفكير مليّاً في أيّ خطوة سياسية أخرى، مثل التوجّه إلى محكمة العدل الدولية، لأن الحكومة الجديدة تعتزم الردّ بقسوة على مثل هذه الإجراءات». وخلال المحادثات، أوضحت إسرائيل: «(أننا) لسنا معنيّين بالتصعيد، وليس لدينا نيّة لإضعاف السلطة الفلسطينية أو حلّها»، فيما ردّ مقرّبون من عباس بالقول إنهم «قلقون للغاية» من خطوة الحكومة.
تدرك السلطة أن وجودها مهمّ للغاية لإسرائيل والولايات المتحدة، وأن أحداً لن يسمح بانهيارها أو تفكُّكها


وجرت، خلف الكواليس أيضاً، محاولات لفرض عقوبات أوسع على الفلسطينيين، لكن المؤسسة الأمنية عارضت، على اعتبار أن إسرائيل لا تستطيع أن تُلحق الضرر بالشعب الفلسطيني وباقتصاده، بل هي ستركّز النار على القيادة. وذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، اختار «عقوبات غير مشدَّدة» ضدّ السلطة، بسبب خشيته من انهيارها، مخالفاً رغبة وزراء حكومته الذين طالبوا بإجراءات عقابية «مشدَّدة»، وهو ما دفعه إلى تشكيل فريق مكوّن منه ومن أربعة وزراء آخرين: المالية، الجيش، الخارجية والشؤون الاستراتيجية، لاتخاذ قرار في هذا الشأن، لافتة إلى أن الإجراءات لم تُعجب الإدارة الأميركية، غير أنها لم تعبّر عن ذلك، علماً أن الفلسطينيين توجّهوا إليها لحلّ هذه القضيّة.
وعلى رغم إدانة مسؤولين فلسطينيين قرارات الاحتلال، إلّا أنه لا يُتوقَّع أن تؤثّر على مستويات العلاقة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، وتحديداً على مستوى التنسيق الأمني، ولا سيما أن الأخيرة كانت قد أوقفت سابقاً التنسيق مع العدو في أعقاب اقتطاعه قيمة ما تدفعه للأسرى وعائلات الشهداء، لكنها عادت إلى العمل به، وعادت العلاقات بين الجانبَين أفضل ممّا كانت عليه، من دون أن تتراجع إسرائيل عن قرارها. وطالما أنها لم تشمل هرم القيادة، يبدو أن السلطة ستبلع العقوبات الأخيرة، علماً أنها لَبِنة المخطّطات الإسرائيلية للمرحلة اللاحقة، وأهمّها مخطّط ضمّ الضفة الغربية. ولهذا، يُعدّ قرار منْع البناء الفلسطيني في المناطق المصنّفة «ج»، والتي تشكّل 62% من مساحة الضفة، خطوة أولى على طريق الضمّ، علماً أن الاحتلال كان يسمح ببناء محدود في تلك المنطقة وبشروط تعجيزية، في مقابل تقديم تسهيلات للبناء الاستيطاني، ويبعث برسالة مفادها بأن شريان الحياة بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية هو بيد الاحتلال من خلال أموال المقاصة التي بات يتحكّم بها بشكل مطلق ويستخدمها لابتزاز السلطة متى وكيفما شاء.
وفي الموازاة، تدفع الحكومة الإسرائيلية إلى إحداث تغيير جوهري في أوضاع المسجد الأقصى؛ ولعلّ زيارة بن غفير تمثّل خطوة أولى في هذا الاتجاه، وإطلاق يد الاستيطان في الداخل المحتلّ وتحديداً في النقب، وتوفير كل المتطلّبات لضمّ الضفة الغربية وتحويل مدنها إلى كانتونات معزولة بعضها عن بعض، بما يسهم في إضعاف السلطة من دون حلّها أو تفكيكها، أي بما يجعلها أقرب إلى مجلس بلدي كبير لإدارة شؤون الفلسطينيين بما لا يتجاوز دور سلطة الحكم الذاتي أو السلطة الخدماتية. ولا تُظهر الأخيرة أيّ بوادر أو مؤشرات إلى تغيير علاقتها مع إسرائيل، أو تنفيذ قرارات المجلسَين «المركزي» و«الوطني» لـ«منظمة التحرير»، كما لا تُظهر أيّ انطباعات لتغيير الأوضاع الداخلية، سواء بتجديد شرعية المؤسسات من خلال انتخابات الرئاسة أو المجلس التشريعي، أو إنهاء ملفّ الانقسام الفلسطيني، والتوقّف عن ملاحقة المقاومة المسلّحة في الضفة، وإطلاق انتفاضة شعبية عارمة، كما لم تستطع إحداث أيّ تغيير يؤدّي إلى تراجع الدول المطبّعة عن علاقتها مع إسرائيل التي تعمل على التحضير لـ«مؤتمر النقب الثاني» بمشاركة دول عربية.
تدرك السلطة الفلسطينية أن وجودها مهمّ للغاية لإسرائيل والولايات المتحدة والدول الأوروبية، وأن أحداً لن يسمح بانهيارها أو تفكُّكها، وهي ضمانة تريحها، وتبقيها بمعزل عن اتخاذ أيّ قرارات في مواجهة إسرائيل. لكن حتى تلك الضمانة، تبدو محلّ شكّ في ظلّ سيطرة اليمين الفاشي على مفاصل الحُكم في دولة الاحتلال، وتوجُّهه الحثيث لترجمة مخطّطاته التي ستصطدم في وقت من الأوقات بمقاومة الفلسطينيين، سواء قبلت السلطة أو عارضت.