عمّان | افتتح السبعاوي، سليلُ أجداده ممِّن خاضوا ثورة بئر السبع ضدّ الاحتلال البريطاني، محمد أبو القيعان، في آذار 2022، عاماً من العمليات الفدائية الفلسطينية النوعية، التي تجاوَز عددُها عددَ تلك التي تمّ تنفيذها في العام السابق (1933 مقابل 1570)، مسفِرةً عن مقتل 31 إسرائيلياً وإصابة 128 آخرين، وهو ما فاق أيضاً حصيلة عام 2015 التي اندلعت فيها «هَبّة السكاكين»، وبلغ عدد قتلاها 29 إسرائيلياً، وفق ما أوردتْه «يديعوت أحرونوت». كذلك، كشف جهاز الأمن العام الإسرائيلي، «الشاباك»، أنه أحبط عام 2022 أكثر من 380 هجمة كبيرة، شملت زراعة عبوات ناسفة ومحاولة اختطاف جنود ومستوطِنين، وكان من الممكن بسببها أن يصل عدد القتلى الإسرائيليين إلى 200 شخص. ولا تعكس هذه العمليات الناجزة أو المحبَطة الجدوى المستمرّة لنهج المقاومة فحسب، بل وتُجلّي أيضاً جودة الاستهداف والتنفيذ، واختلالات المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وصعود أيقونات شابّة تؤسّس لأجسام شعبية ذات بوصلة وطنية مِن مِثل «عرين الأسود».
أساليب نوعية
ظهّرت عملية أبو القيعان، التي أدّت إلى مقتل أربعة إسرائيليين، نهج «الهجوم المزدوَج»، الذي ينفِّذ من خلاله الفدائي أكثر من عملية في الوقت نفسه ما بين دهس وطعن وإطلاق نار وغيرها. كما أنها مثّلت باكورة الاشتباك في مناطق تقع داخل «الخطّ الأخضر»؛ إذ لم يكد يمرّ أسبوعان عليها فقط، حتى وقعت ثلاث عمليات - جميعها باستخدام رشّاش الـ«M16» - في مناطق مختلفة من الداخل، حيث أطاح أيمن وإبراهيم إغبارية من أم الفحم بشرطيَين إسرائيليَين في عملية الخضيرة بالتزامن مع عقْد «قمّة النقب» التطبيعية، فيما نجح ضياء حمارشة في قتْل خمسة مستوطِنين في منطقة «بني براك»، وأسفرت عملية رعد حازم في شارع ديزنغوف وسط يافا المحتلّة عن مقتل ثلاثة مستوطِنين.


ولم يَغب «الكارلو» محلّي الصنع عن المشهد؛ إذ استخدمه الأسيران يحيى مرعي ويوسف عاصي في هجوم «أرئيل» الذي أدّى إلى مقتل حارس المستوطَنة أواخر نيسان. كما استخدمه الشهيدان أحمد أيمن عابد وعبد الرحمن هاني عابد في أيلول، لقتل ضابط إسرائيلي عند السياج الأمني لمستوطَنة «جان نير» بالقرب من حاجز الجلمة شمال شرق جنين. كذلك، تمكّن الأسير أمير الصيداوي، في آب، من إطلاق النار في القدس لـ15 ثانية، مُصيباً 7 مستوطِنين على الأقلّ باستخدام مسدّس فقط. ولأوّل مرّة أيضاً منذ 6 سنوات ونصف سنة، أحيا الأسير إسلام فروخ، في تشرين الثاني، زمن العبوات الفتّاكة، في عملية تفجير مزدوَجة عن بُعد في محطّة الحافلات، بعدما تمكّن بطريقة احترافية من إعداد عبوة فتّاكة من الناحيتَين الكيميائية والإلكترونية، وتجوَّل في المنطقة مِراراً قبل نجاح التنفيذ.
ولم تشهد العمليات الفدائية تطوّر الأدوات فقط، بل تجاوزتْه إلى استهداف شخصيات صهيونية محدَّدة. فالعملية التي نفّذها الشابّان عابد عند حاجز الجلمة قتلت الرائد بار فلاح، وهو نائب قائد أسبق لدورية «ناحال» الإرهابية، فيما الهجوم الذي نفّذه المعلّم محمد الجعبري في تشرين الأوّل في مستوطَنة «كريات أربع»، استهدف المتطرّف عوفر أوحانا المعروف بتحريضه على قتْل الفلسطينيين وبالدوس على جثامين الشهداء. كذلك، اختار الفلسطينيون أماكن التنفيذ بعناية، حيث أحيت عملية الشهيد محمد صوف في تشرين الثاني في مستوطنة «أرئيل» المُقامة على أراضي بلدة سلفيت، والتي أدّت إلى مقتل 3 مستوطِنين، ذكرى عملية عمر أبو ليلى عام 2019. كما أعاد هجوم الخضيرة في آذار في حيفا، إلى الذاكرة، تفجير محطّة حافلات الخضيرة عام 1994، وعملية حسن أبو زيد عام 2005 في سوقها الرئيس. أمّا عملية رعد خازم في آذار في شارع ديزنغوف، فارتبطت إسقاطاتها بالمهندس يحيى عياش الذي نفّذ هناك سلسلة هجمات شكّلت محطّة مفصلية في مسيرة المقاومة.

فشل أمني
في عملية «بني براك»، نجح حمارشة في تخطّي المداخل والحواجز وحالة التأهّب الأمنية التي أعلنتْها قوات الاحتلال بعد تنفيذ عمليتَي الخضيرة و‌النقب، وهو ما أثبت التخطيطَ المحكمَ للمنفّذ الذي هزم المنظومة الأمنية الإسرائيلية. كما فشلت عمليات البحث المكثّفة في شوارع القدس، وتطويق حيّ بأكمله ومحاصرة منزل لمدّة ستّ ساعات، في إلقاء القبض على منفّذ عملية القدس، الصيداوي، الذي قام بتسليم نفسه بعد أن وصل إلى أقرب مركز للشرطة باستخدام سيارة أجرة. أيضاً، لم يكن 1000 جندي من «فرقة اليمام» والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والطائرات الاستطلاعية كافِين لإلقاء القبض على منفّذ عملية «بني باراك»، خازم، الذي قطع يافا سيراً على الأقدام، ودخل مسجدها وصلّى فيه في تمام الساعة 4:00 صلاة الفجر، قبل أن يرتقي شهيداً.
وبعد 4 أيام من المطاردة في شهر أيار، اعتقل الاحتلال منفّذَي عملية «إلعاد»، صبحي صبيحات وأسعد الرفاعي، في منطقة قريبة لا تبعد سوى 500 متر عن المستوطَنة. كذلك، ظلّ الاحتلال لأسابيع يَعتقد أن «خلية منظَّمة» تقف خلْف العملية المزدوَجة في القدس التي نفّذها فروخ، الذي اعتُقل بعد أكثر من شهر، بعدما كان عبَر حاجز «عوفر» حاملاً العبوة الناسفة على مراحل داخل مركبته، وتمكّن من جمعها وزراعتها على مداخل القدس قرب حيّ «راموت» الاستيطاني، ونفذ عمليّته التي قتلت مستوطنَين اثنين عن بُعد. أمِل فروخ في تنفيذ هجمات أخرى بالطريقة نفسها قبل اعتقاله، وهو ما تمكّن عدي التميمي من فعله بعد هروبه لمدّة عشرة أيام؛ إذ نفّذ عملية أولى عند مدخل شعفاط أدّت إلى مقتل جنديّة إسرائيلية، ثمّ تمكّن من شنّ هجوم آخر عند مدخل مستوطَنة «معاليه أدوميم»، استهدف حارسها.
أمّا عملية الشهيد محمد صوف في سلفيت فأثارت نقمة الإسرائيليين على حكومة نفتالي بينيت؛ إذ أقدمَ الشهيد على تنفيذ هجوم بالطعن عند مدخل المنطقة الصناعية للمستوطَنة، ثمّ انتقل إلى محطّة محروقات قريبة وطَعن فيها مستوطنَين آخرين، ثمّ استولى على مركبة وقادها ليدهس مستوطِناً رابعاً. لم تربك هذه العملية جيش الاحتلال وأمنه فقط، بل وأيضاً الإعلام الإسرائيلي الذي اعتقد أن الهجوم نفّذه شخصان، قبل أن تؤكّد «القناة الـ12» أن المنفّذ كان حرّاً لمدّة 20 دقيقة، يجوب الشوارع بحثاً عن المستوطنين. هذا الفشل الأمني يعوّضه الاحتلال بتمجيد الجنود ووحدات الجيش الخاصة، وفرْض عقوبات جماعية على عائلات المنفّذين باحتجاز الجثامين، وهدم المنازل، والاعتقال والاستدعاء للتحقيق، أو تسليط الضوء على معلومات مضلّلة من مثل الزعم بانتماء حمارشة إلى منظّمة إرهابية بسبب منشوراته عن الشهيد مهند الحلبي، واتّهام إغبارية بالانتماء إلى تنظيم «داعش».

أيقونات شابّة
بلغ متوسّط أعمار منفّذي العمليات الفدائية الـ20 في عام 2022، 23 عاماً. إذ لم يتجاوز الفتى محمد أبو قطيش، ابن بلدة عناتا، السادسة عشرة من عمره، حينما قرّر تنفيذ عملية طعن بالقرب من حيّ الشيخ جراح في تشرين الأوّل، أدّت إلى إصابة مستوطِن بجروح خطيرة، وزعم الاحتلال أنها جاءت انتقاماً لعدي التميمي. أما محمد صوف، فقد كان يبلغ 17 عاماً فقط، فيما عامر حسام حلبية، طالب الهندسة في «بيرزيت»، البالغ 20 عاماً، والذي نفّذ هجوماً فدائياً استهدف 3 جنود بالقرب من المسجد الأقصى في تشرين الثاني، كان على تفاعل يومي مع الأحداث في القدس والضفة، وعلى زيارة مستمرّة لقبر الشهيد إبراهيم النابلسي. والأخير، البالغ 19 عاماً، اغتاله الاحتلال مشتبِكاً في نابلس في شهر آب، على خلفية نشاطه العسكري في «كتائب شهداء الأقصى»، والذي ألهم جيلاً من الشباب الصاعد التوّاق إلى تحرير فلسطين.
أمّا التميمي وحمارشة فقد خلقا صدًى واسعاً في الشارع الفلسطيني، وهما اللذان تمكّنا من تنفيذ عمليات معقّدة ضدّ جيش الاحتلال المدجّج بالأسلحة. إذ التفّت الحشود الشعبية حولهما، وزحفت إلى منازل عائلتَيهما، وخرجت المسيرات المشِيدة بعملهما البطولي، وانتشرت دعوات إحراق كاميرات المراقبة وحلق الرؤوس وتكثيف ذكر الاسم عبر الرسائل والمكالمات لتضليل عمليات البحث الإسرائيلية. كما أصبح رعد خازم رمزاً وطنياً، ازدادت شعبيته إثر فيديوهات عمليته التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، والخطاب الأسطوري الذي ألقاه والده فتحي خازم صباح استشهاده، مفتخِراً بابنه، ومبشّراً برؤية النصر في عيون الجيل الشاب.
كذلك، استقبل والد الشهيد عامر حلبية نبأ استشهاد نجله بالدعوة له، وقالت والدة المعتقلَين عمر وغيث جرادات، منفّذَي عملية حومش في آذار: «إذا أولادي عملوا العملية، برفع راسي للسما»، في حين حملت أم إبراهيم النابلسي نعش ابنها مبتسمة وفخورة. كما وسَم كلّ من والد ضياء حمارشة وأقارب صبحي صبيحات وأسعد الرفاعي، المنفّذين، بـ«الهدوء وعدم وجود أيّ دلالات فيهم على العمل الفدائي»، وذلك لأن حياتهم بأكملها هي أشبه عمل فدائي، ثمّ جاء فعلهم كردّ طبيعي على الواقع غير الطبيعي الذي يعايشونه.

«عرين الأسود»
لقد فقد الشباب الثقة بنهج السلطة الفلسطينية، ورفضوا الواقع الاستعماري الذي عبّر عنه الشهيد حمارشة في أحد «بوستاته» على «فيسبوك» قائلاً: «في ناس قدمت أولادها للوطن، وفي ناس قدمت الوطن لأولادها». ولذلك، أوجد بعضهم حالة من التنظيم الثنائي المستقلّ وموحّد الهدف؛ إذ اجتمع الصديقان صبحيات والرفاعي اللذان يعملان في مهنة تمديد الكهرباء معاً في عملية «إلعاد»، وأبناء العمومة أيمن وإبراهيم إغبارية في عملية الخضيرة، وأبناء قرية كفر دان أحمد أيمن عابد وعبد الرحمن هاني عابد في عملية حاجز الجلمة، والأخوان عمر وغيث جرادات في عملية «حومش» في سيلة الحارثية/ جنين، وأبناء الخالة يحيى مرعي ويوسف عاصي في عملية مستوطَنة «أرئيل»، والقريبان وليد ومحمد تركمان اللذان استهدفا حافلة إسرائيلية في عملية غور الأردن.
بلغ متوسّط أعمار منفّذي العمليات الفدائية الـ20 في عام 2022، 23 عاماً


انعكست هذه الحالة الرافضة للانقسام والارتهان للاحتلال، أيضاً، في ظهور تنظيم «عرين الأسود»، الذي يجمع شباباً من مختلف الفصائل مِن مِثل فاروق سلامة، القائد في «كتيبة جنين» التابعة لحركة «الجهاد الإسلامي»، ومصعب اشتيه الذي يُنسب إلى حركة «حماس»، ومحمد طبنجة الذي يُنسب إلى «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، وإبراهيم النابلسي الذي ينتمي إلى «كتائب شهداء الأقصى» التابعة لحركة «فتح». هؤلاء جميعاً عملوا من أجل «عدم ترك البندقية تحت أيّ ظرف، وتوجيهها نحو الاحتلال ومستوطِنيه ومَن يساندهم من العملاء فقط»، ضمن نضال يجسّد الوحدة الفلسطينية على الأرض. وقد صدَر أوّل بيان لـ«عرين الأسود» في نابلس في أيلول الماضي، بعد اغتيال الاحتلال مجموعة من قادتها أبرزهم محمد العزيزي وعبد الرحمن صبح وإبراهيم النابلسي، كما نظّمت المجموعة استعراضاً عسكرياً لمُقاتليها بكامل عدّتهم وعتادهم. وبعد شهر من الإعلان، باركت «العرين» منفّذ عملية «كريات أربع» محمد الجعبري، ونعتْ منفّذ عملية الدهس في أريحا في شهر تشرين الأوّل بركات عودة، وقالت عن التميمي: «لعمرك يا عديّ إنّا نرى مَصارع الرجال ونُحسن صناعتها ونعدّ لها الخطى»، ودعت أهالي الضفة إلى الخروج إلى أسطح المنازل وفي الشوارع لتأدية التحية للبطل، قبل أن تعلن في تشرين الثاني إضراباً شاملاً وتتوعّد الاحتلال بالردّ بعد ارتقاء خمسة شهداء في الخليل ورام الله.
خلق عام 2022 معادلة جديدة سيكون على حكومة بنيامين نتنياهو أن تأخذها في الحسبان، وهي التي وصفت حكومة بينيت «بالفشل الكبير أمنياً وسياسياً واقتصادياً»، فيما سيكون على الفلسطينيين تركيز هدفهم، والاستفادة من الزخم الذي أحدثه العمل الفدائي، والتأسيس على تلك المعادلة من أجل تطويرها وتعزيزها والمُضيّ بها قُدُماً، وصولاً إلى ترجمة ما أعلنتْه «عرين الأسود» في وجه الاحتلال: «سنرى مَن يُحاصر مَن».