الخرطوم | يوم أرادت القاهرة التدخّل بصورة غير مستترة في الشأن السياسي السوداني، للمرّة الأولى منذ اندلاع الحراك الشعبي الذي أطاح الرئيسَ عمر البشير، اختارت رئيس المخابرات، عباس كامل، لنقل رسائلها إلى الخرطوم. اختيارٌ إنّما يؤشّر إلى أن مصر لا تستطيع الفكاك من كوْن هذا الملفّ بالنسبة إليها، إنّما هو أمني بالدرجة الأولى. غير أن زيارة كامل التي استمرّت لساعات، والتقى خلالها ممثّلي عدد من القوى السياسية والمدنية والقائد العام للجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، ساهمت في إرباك المشهد السياسي بصورة كبيرة، خصوصاً بعد أن خرجت تسريبات تفيد بتبنّي القاهرة إعلاناً سياسياً جديداً يدحض «الاتفاق الإطاري» المُوقَّع في 5 كانون الأول الماضي بين «قوى الحرية والتغيير» والمكوّن العسكري. ووفقاً للائتلاف المُعارض الممثَّل في «المجلس المركزي»، فإن الجانب المصري اقترح عقْد لقاءات في القاهرة تضمّ، إلى جانب المُوقِّعين على الاتفاق، «الكتلة الديموقراطية»، وهي جسم سياسي يضمّ عدداً من القوى السياسية والكيانات الأهلية، في مقدّمتها «الحزب الاتحادي»، إلى جانب حركتَي «العدل والمساواة» و«جيش تحرير السودان»، وهو ما رُفض من قِبل الائتلاف الذي أوضح للوفد المصري أن «الإطاري» محدَّد النصوص والأطراف، ولا يمنح مساحة للكتل السياسية. ووفق بيان «الحرية والتغيير»، فإن «الجانب المصري أكد حرص بلاده إنجاحَ العملية السياسية في السودان، واستعدادها لتقديم كلّ ما هو ممكن لتقريب وجهات النظر بين الأطراف السودانية».وتتمسّك «الحرية والتغيير» بما تُسمّيه «عدم إغراق» العملية السياسية بـ«أجسام وقوى سياسية كانت جزءاً من النظام القديم»، وهو ما يمثّل أحد أسباب رفضها للمؤتمر الذي دعت إليه الآلية الثلاثية (المكوَّنة من الأمم المتحدة ومجموعة إيغاد والاتحاد الأفريقي) في الخرطوم. لكن وفق محلّلين، يتّضح من الرغبة المصرية في إشراك «الكتلة الديموقراطية» في العملية السياسية، أن ثمّة سعياً للبحث عن حاضنة سياسية للبرهان، الذي اضطرّ تحت الضغط الدولي وضغط نائبه في «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو، المؤيّد للتسوية، بالإضافة إلى حالة الانسداد، إلى الموافقة على «الاتفاق الإطاري» الذي يُفترض أن يفضي، نظرياً، إلى إبعاد العسكر عن السياسة. وبحسب المحلّلين السودانيين، فإن مصر لا تريد خروج العسكر بالكامل، وقد كانت آخر محاولاتها في هذا الاتّجاه، ترتيب عودة زعيم «الحزب الاتحادي الديموقراطي»، محمد الميرغني، من القاهرة إلى السودان، من أجل تسليط ضغط على القوى المُوقِّعة على الاتفاق، يدفعها إلى التراجع عنه، لكن الميرغني لم يفلح حتى في إجبار نجله، الحسن، على الانسحاب.
تتمسّك الحركات المسلّحة المنضوية تحت غطاء «الكتلة الديموقراطية» بـ«اتفاق جوبا للسلام»


ويرى الكاتب الصحافي، عبد الحميد أحمد، أن «الساحة السياسية يتنازعها الآن مشروعان سياسيان، الأوّل الذي وافقت عليه قوى "الحرية والتغيير"، ويدفع في اتّجاه تحوّل مدني ديموقراطي كامل لا وجود للعسكر فيه؛ والآخر تتبنّاه الكتلة الديموقراطية التي تريد العودة وتعديل الوثيقة الدستورية المُوقَّعة عام 2019، والتي هي قائمة في الأساس على الشراكة مع العسكر». ويَعتبر أحمد، في تصريح إلى «الأخبار»، أن ثمّة «رغبة مصرية جليّة في إشراك العسكر في السلطة، ولذلك تريد القاهرة الدفع بإعلان سياسي يضْمن مشاركة الكتلة الديموقراطية»، مضيفاً أن «إرباك المشهد السياسي عملية مقصودة من الجانب المصري». وكان قد جرى الإعلان عن «الكتلة الديموقراطية» قبل التوقيع بيومَين، ليَظهر أن الغرض من تكوينها قطْع الطريق أمام «الاتفاق الإطاري»، خصوصاً أن الكتلة دفعت بجعفر الميرغني، نجل زعيم «الحزب الاتحادي»، ليكون رئيساً لها، وتكسب بالتالي مزيداً من الزخم والتأييد في قواعد الحزب في وسط البلاد، فيما تحدّثت مصادر مطّلعة عن أن تكوين «الديموقراطية» جرى في الأصل بتدبير مصري.
وتتمسّك الحركات المسلّحة المنضوية تحت غطاء «الكتلة الديموقراطية» بـ«اتفاق جوبا للسلام»، المُوقَّع بينها وبين حكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، وترفض إدخال أيّ تعديل عليه، وهو ما يفسّر رفضها التوقيع على «الاتفاق الإطاري» الذي نصّ على إجراء تعديلات على «جوبا». وفي المقابل، تتمسّك «الحرية والتغيير» بـ«الإطاري»، وتصرّ على المضيّ به نحو نهاياته، في حين ترفضه بعض القوى المدنية التي كانت حتى وقت قريب حليفة للائتلاف، مِن مِثل «الحزب الشيوعي» و«حزب البعث»، بالإضافة إلى «لجان المقاومة»، وتشكّك في نجاعته في قيادة البلاد نحو التحوّل المدني الديموقراطي.