بمجرّد أن يتذكّر السوريون وقائع أحد عشر عاماً من السلوك التركي تجاه بلادهم، ومحاولات إسقاط النظام والدولة ودعم المعارضة المسلّحة، وصولاً إلى احتلال أجزاء من الشمال السوري، يمكن إدراك أهميّة اجتماع موسكو الأوّل على مستوى وزراء دفاع كلّ من تركيا وسوريا وروسيا. وفي انتظار تبلور صورة أكثر وضوحاً مع الاجتماع المحتمَل عقْده قريباً بين الدول الثلاث على مستوى وزراء الخارجية، انشغلت تركيا بتفاصيل المرحلة الجديدة من عملية المصالحة، مع الإشارة إلى أن نظرة الكتّاب المؤيّدين لحزب «العدالة والتنمية» كانت خجولة في مقاربة التطوّرات، فيما بدت الحماسة، كما «الشماتة»، واضحة في موقف الداعين، منذ سنوات، إلى التواصل المباشرة مع دمشق، وسط شبه إجماع على أن الرابح الأكبر ممّا يجري هو الرئيس السوري، بشار الأسد. وعن هذا، يكتب محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات» المعارِضة، في مقالة بعنوان «الأسد انتصر والأطلسية خسرت»، عن أن «احتياجات (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين الخارجية، واحتياجات (الرئيس التركي رجب طيب) إردوغان الداخلية، تقاطعت لتُثمر ضغطاً روسيّاً في اتّجاه عقْد اجتماع وزيرَي الدفاع التركي والسوري في موسكو، ولينفتح بالتالي قليلاً باب التطبيع بين سوريا وتركيا». ووفق غولر، فإن «الكثير من التكهّنات ظَهرت في تركيا وسوريا حول الموضوعات التي ناقشها الوزيران، ولكن يمكن القول إنه من زاوية السياسة الخارجية التركية، قَبِلت أنقرة حقيقة أن السياسات الإقليمية ستسير من الآن فصاعداً على أساس «الحلّ مع الأسد» أو «حلّ الأسد»». ويشدّد غولر على أن الأهمّ من كلّ هذه التقييمات، هو «أن نرى مقدار انعكاس عمليّة التطبيع من زاوية السياسة الخارجية التركية، على سلوك أنقرة في القضايا الإقليمية والدولية، وهو ما يَفترض أن «حلّ الأسد» سينعكس على سياسات تركيا الخارجية. وهذا يتطلّب خطوات ضرورية في الميدان تعكس النهج الجديد».
وأوّل هذه الإجراءات، يقول الكاتب، هو تفكيك الهياكل التي أنشأتها أنقرة من أجل إطاحة الأسد؛ وتضمّ الجماعات المسلّحة كلّها، السورية والإسلامية والراديكالية، التي فتحت تركيا لها الحدود وشكّلت لها برلماناً وحكومة أيضاً. فبرأي غولر، يُشكّل ما تقدَّم، «القضية الأكثر أهمية الآن»، إذ إنه بـ«حلّ هذه الهياكل» يمكن التوصّل إلى ما يصفه الكاتب بـ«الحلّ المرن» لوجود الجيش التركي في سوريا. ويضيف: «بالطبع، إن حلّ هذه الجماعات ليس بالسهولة المتوقّعة، إذ له كلفة سياسية واجتماعية. البعض منها لن يترك السلاح بل ربّما يتحرّك ضدّ تركيا. وهنا سيكون للتعاون بين الجيشَين التركي والسوري أهمية كبيرة، كونه سيسهّل أولاً تصفية الجماعات الإسلامية المسلّحة وسيقلّل من الكلفة على تركيا؛ وسيساعد ثانياً على برمجة انسحاب تدريجي للجيش التركي وسيطرة مقابِلة للجيش السوري على أراضيه». ويتساءل، في هذا الإطار، عمّا إذا كانت السلطات التركية ستقبل بالسيناريو المتقدّم، أم أنها ستطوّع رؤيتها على وقْع الانتخابات الرئاسية وستطرح شرط «تحقيق الاستقرار السياسي» أوّلاً؟.
وفي الصحيفة نفسها، يكتب باريش دوستر، قائلاً إن اجتماع موسكو، وعلى الرغم من تأخّره، يُعدّ مهمّاً للبلدَين، كونه أتاح لتركيا تصحيح سياساتها الخاطئة تجاه سوريا، وفي الوقت نفسه أَظهر أكثر من أمر: أوّلها «حدود قدرة الدولة التركية»؛ وثانيها «خطأ ممارسة السياسة الخارجية على أساس طائفي أو عرقي أو أيديولوجي أو شخصي أو عاطفي واستخدامها أداة في السياسة الداخلية». كما أظهرت السياسة التركية الجديدة تجاه سوريا، بحسب دوستر، «خطأ الاعتماد والوثوق بالولايات المتحدة والاعتقاد بأنها ستفوز تحت أيّ ظرف من الظروف؛ كما خطأ الاستخفاف بالأسد والنظر إلى الدول والمجتمعات في الشرق الأوسط بعين طائفية». ووفقاً للكاتب، فإنه «في حال أسفرت المحادثات بين البلدَين عن نتائج، يمكنهما أن يتعاونا، بمساعدة روسيا وإيران، ضدّ الإرهاب، والقضاء على الوجود الأميركي في سوريا والعناصر الكردية المسلّحة التي تدعمها، وبالتالي تحقيق السلام والاستقرار»، فضلاً عن التمهيد «لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم». ويرى أنه «كون سوريا هي بوابة تركيا إلى الشرق الأوسط بحدود يبلغ طولها 911 كيلومتراً، فإن الثانية تبدأ بالفوز ليس فقط من النواحي السياسية والديبلوماسية والاستراتيجية والأمنية، ولكن أيضاً من الناحية الاقتصادية».
وفي صحيفة «ميللييات» الموالية، يقول تونجا بنغين إن «الولايات المتحدة تريد سوريا مجزّأة دولة ومؤسّسات، لأن هذا سبيلها لترسيخ نفوذها في هذا البلد. لذا، فإن واشنطن غير راضية عن جهود تركيا للمصالحة مع سوريا». ويذهب إلى أن «واشنطن ستبذل كلّ أنواع المؤامرات والاستفزازات لتفخيخ الحلّ بين أنقرة ودمشق، من مِثل الضغط عبر المسلّحين في إدلب، وعبر قضايا أخرى في شرق المتوسط وداخل الجيش التركي من قِبل الضباط الذين لا يوافقون إردوغان في سياساته الجديدة». ومن هنا، فالأهمّ، وفق بنغين، هو أن «تكون سوريا وروسيا وتركيا صادقة ومخلصة وحازمة لتحقيق سلام دائم ومواجهة الألاعيب المحتملة للولايات المتحدة والألغام التي ستزرعها».
أمّا مصطفى قره علي أوغلو، في صحيفة «قرار» المعارِضة والقريبة من أحمد داود أوغلو، فيرى أن «تركيا ليست في وضع تُحسد عليه. لقد كنّا ضدّ بشار الأسد ونريد خلْعه. الآن هذا الهدف لم يَعُد ممكناً، واكتسب الأسد من القوّة ما يكفي ليجلس إلى الطاولة قبالتنا. وروسيا أدارت ببراعة مسار أستانا إلى درجة حَمَلت تركيا على الاعتراف بنظام الأسد والجلوس معه. هذا نجاح لا يستهان به لكلّ من موسكو ودمشق». لكنه يقول أيضاً إن على تركيا «أن لا تثق بروسيا في شأن وحدات حماية الشعب الكردية، حيث توفّر موسكو كما واشنطن الحماية لها»، متسائلاً: «هل يمكن القول للاجئين الذين فرّوا من الأسد إن المشكلة قد حُلّت، ويمكن لهم العودة؟ هل هذا قابل للتطبيق؟». وبحسب الكاتب، لا يمكن القوات التركية أن تخرج من سوريا من دون حلّ مشكلة القوات الكردية، لأنها «القوّة التفاوضية الوحيدة لدينا تجاه دمشق»، خاتماً بأن «العملية مجهولة تماماً وغير موثوقة، وستستغرق المفاوضات حولها سنوات بل عقوداً قبل التوصّل إلى اتفاقات. والقضايا التي لا يمكن حلّها في الميدان، لن يكون من السهل حلّها على الطاولة».
على السوريين استخدام مقاييس دقيقة من أجل مواجهة الذي يتوقّعونه من عملية التطبيع مع تركيا


من جهته، يَعتبر فهيم طاشتكين، في صحيفة «غازيتيه دوار» المعارِضة، أن «على السوريين اليوم استخدام مقاييس دقيقة من أجل مواجهة الذي يتوقّعونه من عملية التطبيع مع تركيا. فقد تتقدَّم الأمور بشكل مدهش، وربّما يتحقّق حلم إردوغان بالصلاة في الجامع الأموي، ولكن جنباً إلى جنب الأسد». ويصف الكاتب اجتماع موسكو بأنه «ولادة في صفحة الهزيمة لتركيا»، علماً أنه «ليس واضحاً ما الذي اتّفق عليه الجانبان، لكن دمشق وموسكو تريان أنه اتفاق لضرب الجماعات المسلَّحة في إدلب، بينما تكتفي أنقرة بذكْر وحدات حماية الشعب الكردية، فيما ستكون مشكلة الجماعات الجهادية في إدلب وأمراء الحرب، من أصعب التحدّيات التي ستواجهها أنقرة». ويتساءل طاشتكين: «هل ستقول تركيا لسوريا: تعاملي مع الأكراد واتركي لي أمر الانتهاء من الجهاديين؟»، ليجيب: «يريد إردوغان أن يُقنع دمشق بأن الأكراد هم العدو المشترك، وبأنهم ثمن التطبيع بين البلدين». وإذا اجتمع إردوغان والأسد قبل الانتخابات، يضيف، «يمكن التحدّث عن استثمار انتخابي دموي. اجتماع وزراء الخارجية المقبل سيجعل الأهداف أكثر وضوحاً. والمحصّلة: الأسد يربح».