تونس | بدا في تونس وكأن الصمت الانتخابي طال أكثر من اللازم، بل امتدّ منذ بداية الحملة الانتخابية إلى نهايتها، فيما لم تتمكّن هيئة الانتخابات التي نصّبها الرئيس قيس سعيد من تحفيز التونسيين على الترشّح أو التصويت. هكذا، اقتصر العرس الانتخابي على حفل أقامته الهيئة بمناسبة افتتاح مركزها الإعلامي، لم يحِز إلا الاستهجان والانتقادات. إذ لم يعتد التونسيون هكذا حفلات، ولم يستسيغوا الفلكلور الممجوج الذي فُرضت عليهم مشاهدته على التلفزيون الرسمي، الذي تحوّل من مرفق عام يموّله دافعو الضرائب، في مقابل حصولهم على معلومات يُفترض أن تكون صحيحة ودقيقة، إلى جزء من الحفلة الانتخابية، في استمرار للمنحى الذي اتّخذه منذ 25 تموز 2021، حيث دأب على إقصاء المعارِضين، والتطبيل للقصر الرئاسي.هكذا، تخلّت الهيئة عن ثوابتها، وكلّ ما اكتسبته خلال السنوات الماضية من تقدير محلي ودولي، وقبِلت بأن تتنازل عن مبادئ حيوية في الشأن الانتخابي، على غرار الدفاع عن سلامة العملية الانتخابية وشفافيتها، وضمان حرية وسائل الإعلام وفق ضوابط يتمّ الاتفاق عليها مع هيئات أخرى من مثل «هيئة التعديل السمعي البصري» المكلَّفة قانوناً ودستوراً بالرقابة على وسائل الإعلام. كذلك، قبلت بأن تلعب الدور الذي رسمه لها سعيد، وهو الإعداد اللوجستي التقني المقيِّد للانتخابات، من حيث توفير المواد اللازمة ومقرّات الاقتراع والموارد البشرية الكافية فقط، من دون أن تُعارض أيّاً من تصوّرات الرئيس، وهي التي تعوّدت أن يقول رؤساؤها آراءهم بصراحة في أيّ تعديل يطرأ على النظام الانتخابي. خُيّر الأعضاء المتبقون من الهيئة القديمة التي نَظمت انتخابات 2019، وأولئك المعيَّنون الجدد من قِبل سعيد، بين أن يتواطؤوا على تعديل القانون الانتخابي وقوانين الهيئة نفسها، وبين الاستقالة جماعياً لإحراج الرئيس والضغط عليه من أجل تعديل مساره، خصوصاً أن هؤلاء وجدوا أنفسهم في مواجهة المجتمع المدني الذي طالما تعاون مع الهيئة، علاوة على خسارتهم ما تبقّى من ثقة بهم لدى العامة.
على أيّ حال، انطلقت الانتخابات التشريعية في دوائر المهجر، مُجلّية لامبالاة التونسيين في الخارج بالاستحقاق، فيما اكتفت الهيئة، منذ انطلاق التصويت الخميس الماضي، بتصريح وحيد أقرّت فيه بأن يوماً كاملاً من الاقتراع في المهجر في عشرات الدوائر في الخارج في القارات الخمس، لم يسجّل إلّا 100 مقترع فقط. مع ذلك، قال رئيس «العليا المستقلّة للانتخابات»، فاروق بوعسكر، إنه يطمح إلى مشاركة مليونين وسبعمئة ألف ناخب من جملة سبعة ملايين ناخب مُسجَّل. لكن حتى هذا الثلث المطلوب يبدو مستبعداً التوصّل إليه، لا سيما وأن انتخابات 2019 التي شهدت حشداً جماهيرياً وحملات توعوية وترشيحات متعدّدة وحرباً حزبية طاحنة بكلّ الوسائل القانونية واللاقانونية، لم يتجاوز حجم المشاركين فيها مليونين وتسعمئة ألف ناخب فقط، وفق إحصائيات الهيئة.
غابت عن الترشيحات مشاركة النساء نتيجة تعديل الرئيس للنظام الانتخابي


ومن بين المعضلات التي تواجه الهيئة أيضاً، كما الناخبين، ضعْف الترشيحات وغياب فئات عديدة عنها، إذ لم تتجاوز ألفاً وأربعمئة مرشّح - على رغم التمديدات المتواصلة لآجال الترشّح -، قَبلت منها الهيئة ألفاً وخمسين، بينما ترشّح لانتخابات عام 2019 خمسة عشر ألفاً في ألف وخمسمئة قائمة حزبية أو ائتلافية أو مستقلّة. وللعازفين عن الترشُّح أسبابهم الكثيرة، من بينها رغبة البعض في عدم التورّط في انتخابات لا تراعي الأُسس الديموقراطية، أو غياب التمويل في ظلّ تشديد النظام الانتخابي الجديد لقواعد التمويل الانتخابي وإلغائه المنحة العمومية، أو بكلّ بساطة الإجحاف في شروط الترشّح، بخاصة في ما يتعلّق بجمع التزكيات.
أمّا المترشّحون، فلا يمكن الجزم بأن جميعهم من متبنّي مشروع سعيد أو أنهم من أتباعه؛ إذ ثمّة أيضاً ترشيحات من شخصيات تُعدّ من رموز الانتفاضة، ولا تتّفق مع الرئيس في طريقة إدارته الشأن السياسي بعد 25 تموز.
وإضافة إلى ذلك، قُدّمت ترشيحات لقّبها بوعسكر بـ«الغواصات»، في إشارة إلى ترشُّح شخصيات منتمية إلى أحزاب سياسية في شكل ترشيحات فردية، ما قد يكشف، إلى جانب مؤشّرات أخرى، أن أحزاباً وازنة في المعارضة، كـ«النهضة» مثلاً، وأخرى موالية للرئيس، اختارت أن تشارك في الانتخابات بشكل مقنّع، وتحافظ على نصيبها من السلطة التشريعية، من دون أن تتورّط في مشروع سعيد. ويثير ذلك تساؤلات عدة، حول ما إذا كانت الأحزاب التي اعتادت حيازة أكثر من ربع مقاعد البرلمان سابقاً بمقاعده المئتين وسبعة عشر، ستجد كفاية في الحصول على مقعدين أو ثلاثة في برلمان سعيد ذي المئة وواحد وستين مقعداً فقط. من جهة أخرى، غابت عن الترشيحات مشاركة النساء نتيجة تعديل الرئيس للنظام الانتخابي، لتفقد تونس ما كانت تُفاخر به من مشاركة واسعة للمرأة في المحطّات الانتخابية المحلّية والوطنية، بعد أن فُرض دستوراً وقانوناً التناصف في القائمات المترشّحة. وفي الانتخابات الحالية، لم تشارك سوى مائتي امرأة فقط، ما يعني أن البرلمان المقبل سيكون ذكورياً بامتياز، في ما يمكن فهْم هذا العزوف في استشعار النساء عدم إشراكهن في المسار الانتخابي، لا كناخبات ولا كمترشّحات ولا كمستهدَفات بالحملات الانتخابية.