القاهرة | بداية الشهر الجاري، احتفل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وإعلام نظامه، بافتتاح مدينة المنصورة الجديدة المطلّة على البحر المتوسط، والتي أُنفقت مليارات الجنيهات على إنشائها، واعترتْها عمليات فساد أدّت إلى تهشيم بنيتها التحتية حتى قبل تشغيلها، الأمر الذي جعل كلفتها تفوق ضِعف ما كان مُخطَّطاً له في الميزانية. مع ذلك، لم تَجرِ أيّ محاسبة واضحة ومعلَنة للمتورّطين في الفساد، في وقت تَحوّل فيه الافتتاح إلى مناسبة ليحاضر السيسي في المصريين حول ما «أفسدوه» على مدار سنوات، من خلال البناء العشوائي وإدارة السلطات المحلّية، وغيرها من الظواهر التي كانت الأنظمة المتعاقبة شريكة للمواطنين فيها. على أن السيسي فضّل، في حديثه، تحميل هؤلاء مسؤولية غياب الدولة عن توفير السكن، والسكوت عن الأموال التي كانت تُدفع لـ«المحلّيات» مقابل سماح الأخيرة بالتعدّي على الأراضي الزراعية، مُحاوِلاً من خلال ذلك تبرير التكلفة المرتفعة لعملية إنشاء المدينة، التي تَغيّر هيكلها وتصميمها بشكل كامل، وأرجئَ تنفيذ جزء رئيس منها إلى مرحلة ثانية لضَعف الإقبال. ويتمثّل هذا الجزء في الأبراج المطلّة على شاطئ البحر المتوسط، والتي جرى تبديل موقعها بعدما تَبيّن أن الموقع الذي اختير ابتداءً لم يكن صالحاً لبناء ناطحات السحاب على غِرار تلك التي ارتفعت في العلمين الجديدة وافتُتحت الصيف الماضي.أمّا ما افتَتحه السيسي، فليس أكثر من مجموعة مبانٍ سكنية تفصلها عن المدن المجاورة نحو 30 دقيقة على الأقلّ في السيارة، وتبدو كلفتها مرتفعة كثيراً بالنسبة إلى محدودي الدخل. لكنّ المفارقة أن المنصورة الجديدة لا يفضّلها حتى الأثرياء وأبناء الطبقة الوسطى، وذلك بالنظر إلى أن أمامها سنوات حتى تكون أكثر ملاءمة للسكن والتنقّل، فضلاً عن ارتفاع أسعار المحروقات والسيّارات، والذي يُضاعف من كلفة الانتقال منها وإليها بشكل يومي. وإذ تضمّ المدينة مئات الفيلات الجديدة، ومِثلها من العمارات المخصَّصة للإسكان الاجتماعي، فإن تساؤلات كثيرة تُطرح حول مدى الحاجة إلى هذه العمارات التي يتمّ تشييدها بسرعة قياسية، من دون دراسة جدوى تحدّد التكلفة المناسبة والأسعار العادلة لبيعها، خصوصاً في ظلّ عزوف المواطنين عن شراء الوحدات السكنية المطروحة من الحكومة بشكل شبه كامل، لارتفاع أسعارها بشكل مبالَغ فيه مقارنة بمشاريع القطاع الخاص التي تتميّز أيضاً بخدمات ما بعد البيع، ولا سيما في حالة الشركات الكبيرة.
ومنذ وصول السيسي إلى السلطة في عام 2014، وفي خضمّ أزمة اقتصادية طاحنة، سعى النظام إلى إنشاء عدد من المدن الجديدة في قلْب الصحراء، مستغلّاً المساحات الشاسعة من الأراضي، سواءً في الساحل الشمالي أو حتى في المنصورة ومدن القناة، والتي كانت غالبيتها إمّا «وضْع يدٍ» لبعض المواطنين أو تتبع القوّات المسلّحة أو غير مستغَلّة. ومن بين تلك المدن المستحدَثة، العلمين الجديدة التي باتت مقرّاً صيفياً للدولة، والعاصمة الإدارية الجديدة التي يجري تشييدها منذ 8 سنوات. على أن هذه المشاريع، ذات التكلفة الباهظة، خلقت ديوناً متزايدة على الدولة بسبب التوسّع في عمليات استيراد مستلزمات البناء، وعدم توافر العديد من الخامات محلّياً، إلى جانب عمليات الفساد المنظَّم التي ارتُكبت بوساطة الشركات المنُفذِّة، ومن بينها شركات تابعة للجيش بشكل مباشر، أو أشرف عليها لواءات متقاعدون، في ما كلّف خزينة الدولة ملايين الدولارات التي أُنفقت على خُطط لم تتمّ الاستفادة منها إلى اليوم لأسباب عدّة.
ووفق الجدول الزمني للانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، كان من المفترض أن تُباشر الحكومة عملها فيها مطلع 2020، لكن تداعيات جائحة «كورونا» أدّت إلى تأخير تطبيق هذه الخطط. وحتى بمعزل عن الجائحة، فقد ثبتت استحالة البدء بالعمل هناك، من دون توفير وسائل مواصلات تتّسع لأعداد المواطنين الذين سيتّجهون إلى العاصمة الجديدة لإنهاء مصالحهم، وهو ما سبّب تأخّراً إضافياً، إلى جانب ما استتبعه التعجّل في إنشاء المباني الحكومية الفارهة من ارتفاع في أسعار مستلزمات البناء، وخاصة الخامات المستورَدة التي زادت واردات الدولة منها بما يتناسب مع احتياجات قصر الرئاسة الفخم ودار الأوبرا العالمية ومبنى وزارة الدفاع الذي يشبه مبنى البنتاغون من ناحيتَي التصميم والتأمين. نتيجة تلك العوامل، وتحت وطأة الضغط أيضاً من الحلفاء الخليجيين، بدأ النظام يتراجع عن فكرة الانتقال السريع إلى العاصمة الجديدة، مقتصِراً على نقْل بضع عشرات من الموظفين لحفظ ماء الوجه فقط، فيما أُرجئ استيراد العديد من التجهيزات النهائية حتى إشعار آخر بسبب أزمة نقص العملة، واكتُفي بعقْد جلسات لمجلس الوزراء في المقرّ الحكومي الجديد. وممّا دفَع إلى تلك الإجراءات كذلك، أن الوضع الاقتصادي العالمي وتراجُع الاستثمارات الأجنبية المباشرة، توازياً مع تراجُع قدرة المواطنين على الإنفاق، كلّها عوامل أدّت إلى تعقيد أكبر لخُطط الحكومة الهشّة، والتي كانت تأمل تعويض كلفتها من بيع المقرّات القديمة في وسط القاهرة، مثلما جرى في بعض الأراضي التابعة لوزارة الداخلية.
في السياق نفسه، وفي خضمّ تنفيذ خطّة الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، جرى تأسيس مدينة حدائق العاصمة على أطرافها لتكون مقرّاً لإقامة موظّفي الحكومة، وهو ما كلّف خزانة الدولة مليارات الجنيهات التي يُفترض أن تستردّها على مدى 20 عاماً من موظّفيها المنتقِلين، والذين حصلوا على الشِقق بدعم حكومي، علماً أن بعضهم سيتقاعدون بعد أقلّ من 10 سنوات، وأن بعضهم الآخر، ممّن لم تتبقّ أمامهم سوى فترة وجيزة للتقاعد، قُبلت طلبات تسريحهم. كذلك، شملت الخطّة إنشاء القطار الكهربائي، وتشغيله بتكلفة تجاوزت ملياراً و300 مليون دولار في المرحلة الأولى، مع تنفيذه في عامَين فقط، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع إضافي في تكلفته، فيما مُنحت الشركات المنفّذة له مستحقّاتها بالدولار في خضمّ أزمة عملة بدأت تلوح في الأفق منذ بداية العام الماضي. مع هذا، ظلّت الحكومة تتجاهل تلك المؤشّرات، وتنخرط في مشاريع متعدّدة، كان آخرها القطار الكهربائي السريع، والذي جرى الاتفاق على تنفيذه مع «سيمنز»، مقابل 8.5 مليارات دولار تُسدَّد للشركة الألمانية العملاقة، في وقت تُكافح فيه مصر للحصول على قرض وتسهيلات ائتمانية من «صندوق النقد الدولي» والشركاء الدوليين بقيمة تصل إلى 9 مليارات دولار، من بينها 3 مليارات دولار فقط قيمة قرض يُسدَّد على 3 سنوات لمعالجة عجز الموازنة.
على أن مشروعات البناء تلك، ليست وحدها التي تمثّل مظاهر التبذير في مصر، بل إلى جانبها أيضاً محطّات الكهرباء الضخمة التي تفوق الاحتياجات المحلّية. فخلال 3 سنوات، جرت إضافة شبكة كهرباء تكفي للعقود الخمسة المقبلة، في ما عدّه الرئيس إنجازاً كونه نُفّذ بأسعار أقلّ ممّا كان سيُنفَّذ به في المستقبل. لكن على أرض الواقع، أُغلقت بعض المحطّات، وتعطّلت مشاريع أخرى للطاقة النظيفة كان يُفترض إنجازها بميزانيات أقلّ لتجنّب مزيد من التعطيل في محطّات توليد الكهرباء الكبرى، والتي أنشئت بالتعاون مع «سيمنز».

الدولة تلوم العجَزة: حان الوقت لكي تموتوا!
في وقت يستمرّ فيه تكميم أفواه المعارضة، وإعلاء «الصوت الواحد» من قِبَل الأجهزة السيادية، إلى جانب العمل على إقصاء شخصيات عديدة من المشهد لامتلاكها آراءً نقدية بخصوص الوضع الراهن، يرفض النظام المصري الاعتراف بفشله في التعامل مع الأوضاع الاقتصادية، مُفضِّلاً تحميل المواطنين تداعيات السياسات الخاطئة المتّبَعة، ومستمرّاً في حشْد حجج «غير منطقية» لتبرير تلك السياسات. حججٌ من بين أبرزها، مثلاً، تراجُع معدّل وفيات كبار السنّ، وهو ما تُحمّل الحكومة المُواطنين مسؤوليته وفق ما جاء صراحةً على لسان رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، في شهر آب الماضي. وعلى رغم تراجُع معدّلات المواليد بشكل مطّرد نتيجة تدهوُر الأوضاع الاقتصادية وتضاعُف المعاناة التي تُواجهها الأُسر، يلوم مدبولي الزيادة السكّانية في تضييع معدّلات التنمية التي يحقّقها النظام سنوياً، على اعتبار أن زيادة أعداد المواليد مقارنةً بقلّة الوفيّات المتوقّعة ستؤدّي إلى إضافة 1.6 مليون فرد، وهو عبء يلتهم جهود الحكومة، من وُجهة نظر الأخيرة.
أمّا الحجّة الأبرز الثانية، فهي زيادة أعداد العاملين في الجهاز الإداري للدولة، علماً أنه خلال السنوات العشر الماضية، انخفض عدد هؤلاء إلى أكثر من النصف، ليستقرّ عند نحو 3 ملايين موظّف فقط حالياً، بعدما كان يتجاوز حاجز 8 ملايين، على رغم أن غالبية المصالح الحكومية تعاني مشكلات مرتبطة بعدم وجود عدد كافٍ من الموظفين لإنجاز المهام المطلوبة. يُضاف إلى ما تَقدّم أن الحكومة التي تروّج لسعيها إلى تحسين منظومة الصحّة عبر تطبيق النظام الجديد للتأمين الصحّي الشامل الذي دخل حيّز التنفيذ في محافظتَين أخيراً، قرّرت توجيه عائدات النظام للاستثمار بها وتحقيق عوائد من خلالها، بدلاً من استخدامها في توسيعه وتسريعه، وفقاً لِمَا وعدت به سابقاً، خوفاً من تحميلها أعباء مالية جديدة.

القطاع العام يسكّر أبوابه: لا مكان لطالبي العمل
منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحُكم، يشهد الجُنيه المصري تدهوراً حادّاً في قيمته، التي انخفضت خلال 9 سنوات من 7 جنيهات لكلّ دولار، إلى نحو 31 جنيهاً في السوق السوداء، ونحو 25 في البنوك حيث لا تتوافر العملة الصعبة أصلاً. يأتي ذلك في وقت أَوقفت فيه الحكومة التوظيف في مؤسّساتها، ليقتصر راهناً على مالكي السلطة والنفوذ وبأعداد محدودة للغاية، فيما التوظيف في الشركات الخاصة التي يديرها الجيش والمخابرات، والتي تكلَّف بأعمال لصالح الجهات الحكومية، يفتقد إلى عنصرَي الأمان والاستقرار. وحتى التسهيلات البسيطة والمتوسّطة الممنوحة للشركات الخاصة، لم تَعُد متاحة من دون قيود؛ إذ إن القبضة الأمنية والرسوم باتت تُلاحق مَن يسعون إلى هذا العمل على رغم ما يعتريه من تعقيدات وصعوبات، بينما يأتي تَوجّه الحكومة لفرض مزيد من الضرائب والرسوم، ليعمّق أوجاع عاملِي المهن الحرّة، والذين لا تلتزم الدولة بأيّ شيء حيالهم مقابل ذلك. أمّا مَن وضعوا أموالهم في البنوك للحصول على العائد من الشهادات، فيفقدون قيمة مدّخراتهم مع تدهوُر سعر الجنيه، وتسجيل التضخّم أرقاماً قياسية بشكل شهري.
قبل أسابيع قليلة، كان أحد المستثمرين الخليجيين يتحدّث في مؤتمر اقتصادي، بحضور وزراء، عن مزايا الاستثمار في مصر، والتي من بينها عدم إلزام المستثمر بزيادة سنوية في الأجور على غرار الصين، في حين بات الحدّ الأدنى للأجور بحسب الحكومة 3 آلاف جنيه (أقلّ من 100 دولار وفق سعر الصرف في السوق الموازية). هكذا، وبينما يتحدّث السيسي عن قدرته على تحسين أجور الموظّفين الحكوميين، يعجز في الوقت نفسه عن إلزام القطاع الخاص بالزيادة، التي تَقدّمت عدّة شركات بطلبات لاستثنائها منها، في حين تتهرّب الغالبية أصلاً من تعيين موظّفين جُدُد لتجنّب أيّ أعباء أو التزامات إضافية. مع ذلك، لا تجد الحكومة رادعاً من الطلب إلى مُواطنيها، الحصول على شِقق في وحدات الإسكان الاجتماعي المدعومة في أمكنة بعيدة عن العاصمة، وهو ما يعكس اختلال النظرة إلى المُواطنين، الذين لا يعانون فقط تدهوُر قيمة الدخل، وإنّما أيضاً النفقات المتزايدة في التنقّل والحركة، في ظلّ ارتفاع أسعار المحروقات بشكل مطّرد في السنوات الثلاث الماضية.
بالنتيجة، العمل اليومي بالأجر لم يَعُد مجدياً، والانتظام في العمل الحكومي ليس خياراً متاحاً، والقطاع الخاص يسعى إلى الربح من دون النظر إلى أيّ اعتبارات أخرى. لذا، لم يَعُد مستغرَباً تزايُد هجرة الشباب المصري إلى الخارج، بحثاً عن فُرص عمل أفضل تُحقّق لهم أبسط شروط الحياة الآدمية.