لندن | استمرّت مفاعيل فضيحة الرشاوى القطرية التي هزّت سُمعة البرلمان الأوروبي في الاتّساع، بعدما نفّذت الشرطة البلجيكية والإيطالية واليونانية مزيداً من عمليات الدهم والتفتيش، والتي شملت منازل ومكاتب وفنادق يقيم فيها مشرّعون أوروبيون أو مساعدوهم أو أقاربهم، أسفرت عن إلقاء القبض على عدد منهم، بمَن فيهم إحدى نائبات رئيسة البرلمان، بتهمة الحصول على أموال وهدايا ثمينة وخدمات لدعْم موقف قطر في المداولات البرلمانية، والانخراط في حملة لتبييض سمعة الإمارة الصغيرة عشيّة استضافتها المونديال. وفيما جرى تعليق التصويت أو تجميد العمل باتفاقات للاتحاد الأوروبي مع الدوحة، أثارت أصداء «قطر غيت» ردود فعل ساخطة من بعض كبار القادة الأوروبيين، وتسبّبت، وفق المراقبين، بأضرار فادحة لمصداقية الهيئة التشريعية، وأفقدتْها سلطتها الأخلاقية كـ«حارسة» للقيم الأوروبية المزعومة
لا يكاد المواطنون الأوروبيون يصدّقون كيف أن العديد من المشرّعين - الحاليّين والسابقين - الذين يجتمعون في ما يسمّى البرلمان الأوروبي لصياغة شكْل حياتهم ومستقبلهم، ليسوا سوى عصابةَ مرتشين عديمي الأخلاق، تلقّوا رشاوى نقديّة ومجوهرات ثمينة وساعات باهظة الثمن وعطلات فاخرة، في مقابل دعْمهم موقف الحكومة القطرية في مداولات البرلمان، وانخراطهم في حملة علاقات عامة لتبييض سمعة الإمارة التي تضرَّرت عشيّة استضافتها مباريات كأس العالم لكرة القدم. وكانت مصادر متقاطعة كشفت عن مقتل أعداد من العمّال في ظروف مشبوهة أثناء تنفيذ الإنشاءات المرتبطة بالمونديال، لينضمّ ذلك إلى تهم تتعلّق بالفساد، والتجاوزات في ملفّات حقوق الإنسان، ودعْم الإرهاب. ويمثّل البرلمان الأوروبي السلطة التشريعية في الاتحاد، ويُنتَخَب أعضاؤه الـ750 مباشرةً من قِبَل مواطني الدول الـ27 التي يضمّها التكتّل.
وفي ما بدا أشبه بمسلسل بوليسي باهت مستمرّ منذ أسبوع، تابع الأوروبيون تحرّكات الشرطة في غير مدينة أوروبية لتنفيذ أوامر تفتيش لمنازل ومكاتب عدد من المشرّعين ومساعديهم وأقاربهم. وقَبضت الشرطة على والد إيفا كايلي، عضوة البرلمان عن الحزب «الاشتراكي» اليوناني، وإحدى نائبات رئيسة البرلمان الأوروبي، بينما كان يحاول الفرار من فندق سوفيتيل في بروكسل، وفي حوزته حقيبة محشوّة بالمال - قُدِّرت محتوياتها بـ600 ألف يورو -. وعُلِم أيضاً أن السلطات البلجيكية صادرت، إلى الآن، ما تزيد قيمته على المليون يورو نقداً، إلى جانب كميّة من المجوهرات الثمينة والساعات الباهظة الثمن. واتُّهم عضو البرلمان الأوروبي السابق، الاشتراكي الإيطالي بييرانتونيو بانزيري، بالفساد - وهو للمفارقة رئيس جمعيّة غير حكومية لمكافحة الإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم ضدّ الإنسانية -، وصادرت الشرطة البلجيكية 600 ألف يورو نقداً من منزله، كما تَبيّن أنه كان اصطحب عائلته في رحلة فاخرة كلّفت 100 ألف يورو سدَّدتها السلطات القطرية، فيما احتجزَت السلطات الإيطالية زوجته وابنته في بيرغامو بناءً على مذكّرة اعتقال أوروبية. وأُلقي القبض على كايلي، وزوجها فرانشيسكو جيورجي، الذي كان يعمل لدى بانزيري، وصادرت الشرطة البلجيكية 150 ألف يورو أخرى من منزلهما، تضاف إلى المبلغ الذي حاول والدها الفرار به، فيما أُعفيت هي من مسؤولياتها في البرلمان بعد تصويت عاجل، كما أعلن «الاشتراكي» اليوناني تجميد عضويتها في الحزب. وكانت رئيسة البرلمان، روبيرتا ميتسولا، قد استُدعيت على عجل من مالطا لحضور تفتيش منزل نائبتها.
دعاية بعض النواب الأوروبيين المستمرّة لقطر ودفاعهم المستميت عنها، أثارا الارتياب


وفي أثينا، أمر رئيس هيئة مكافحة غسل الأموال اليونانية بتجميد أصول كايلي المالية وأصول شركائها، بعدما تبيّن أنها سجَّلت، قبل أسبوعين، شركة عقارية باسمها بالشراكة مع زوجها. ولم يُعرف بعد ما إذا كانت تلك الشركة واجهة لتبييض الأموال، لكنّها افتَتحت مقرّاً فارهاً لها في حيّ راقٍ في العاصمة اليونانية. ومَثُل أربعة أشخاص على الأقلّ أمام قاضٍ في بروكسل بتهم تتعلّق «بالمشاركة في منظّمة إجرامية وغسل الأموال والفساد»، فيما تلاحق السلطات 10 آخرين، من بينهم الأمين العام لـ«الاتحاد الدولي لنقابات العمال» لوكا فيسينتيني، والأمين العام لمنظّمة «لا سلام دون عدالة» غير الحكومية نيكولو فيغا تالامانكا، وعدد من الموظّفين في البرلمان الأوروبي، كما جرى تفتيش عدّة منازل ومكاتب لنواب ومساعدين برلمانيين ومستشارين، ومنها منزل البلجيكي مارك تارابيلا، عضو البرلمان الأوروبي ونائب رئيس وفد البرلمان للعلاقات مع دول الخليج العربي. وقال مكتب المدعي العام الاتحادي في بلجيكا إنه يشتبه في أن «أطرافاً ثالثة في مناصب سياسية و/ أو استراتيجية داخل البرلمان الأوروبي حصلت على مبالغ كبيرة من المال أو عُرضت عليها هدايا كبيرة للتأثير على قرارات البرلمان».
ونقلت الصحف عن مشرّعين وموظفين في الاتحاد الأوروبي فضّل أغلبهم عدم الكشف عن أسمائهم، قولهم إن مسؤولين قطريين في بروكسل سعوا، خلال الفترة التي سبقت كأس العالم، إلى تخفيف الانتقادات التي تعرّضت لها الإمارة على خلفية الضحايا من العمّال؟ والسجلّ المُقلق لحقوق الإنسان فيها، ودعْمها الإرهاب، وذلك عبر حملة مكثّفة استهدفت أعضاء البرلمان الأوروبي، وشملت دعوات لتناول العشاء في مطاعم فاخرة، ورحلات مدفوعة التكاليف، وتذاكر لحضور مباريات كأس العالم. وقد سجّل عدد قليل من المشرّعين حصولهم على هدايا من قطر، ومنهم نائبة صرّحت بأنها تلقّت زجاجة عطر فاخرة، لكنّه من الجليّ أن كثيرين لم يفعلوا ذلك، على رغم أن القانون يُلزم النواب بالامتناع عن تلقّي هدايا تزيد قيمتها على 150 يورو، مع ضرورة التصريح عن أيّ هديّة أو دعوة لحضور مناسبات ترتبط بعملهم.
وأدّت الفضيحة بالفعل إلى استقالات رسميّة من قِبَل عدد من نواب «الكتلة الاشتراكية» في البرلمان، التي تنتمي إليها كايلي، وعُلّق العمل بـ«لجنة الصداقة البرلمانية» بين الاتحاد الأوروبي وقطر، كما تقرَّر إرجاء التصويت على مشروع كان يُفترض إقراره لمنْح المواطنين القطريين إمكانية السفر إلى دول الاتحاد من دون تأشيرة. ويبدو كذلك أن اتفاقيّة أجواء مفتوحة تمّ إقرارها أخيراً مع الخطوط القطرية، جُمّدت، وستكون موضع إعادة نظر خشية أن تكون الرشاوى التي دُفعت قد أثّرت على مواقف النواب لدى التصويت. وكانت هذه الاتفاقية التي تفاوضت عليها «لجنة النقل» في البرلمان، موضع انتقاد عدد من الدول الأعضاء في الاتحاد، والتي رأت أنها مجحفة، وتميل بشكل غير عادل لمصلحة قطر. ومن المتوقَّع الكشف عن المزيد من حالات قبول الرشوة بالنظر إلى أن هواتف كثير من المشتَبه فيهم وُضعت تحت المراقبة منذ عدّة أشهر، في إطار تحقيق يقوده القاضي البلجيكي، ميشيل كليز.
من جهتهم، عبّر قادة بارزون من عدد من دول الاتحاد الأوروبي عن صدمتهم جرّاء فضيحة «قطر غيت»، وأشاروا إلى تعاظم الشكوك حول «مصداقية» التكتُّل بسببها، وطالبوا بإجراء تحقيق كامل وشفّاف. ووصفت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، ما جرى الكشف عنه بأنّه «أمر لا يُصدّق، ويجب توضيحه الآن من دون استثناءات، مع التنفيذ الصارم للقانون». ونُقل عن رئيسة المفوضية الأوروبية (أي حكومة الاتحاد الأوروبي)، أورسولا فون دير لايين، قولها إن «المزاعم بأن قطر تسعى إلى شراء نفوذ في المجلس تثير قلقاً بالغاً، وتقوّض ثقة المواطنين في مؤسّسات الاتحاد الأوروبي». بدوره، انتقد رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو، المؤسّسات الأوروبية، مشيراً إلى أن «العدالة البلجيكية اضطرّت لعمل ما قصّر البرلمان الأوروبي عن عمله». وقال زعيم مجموعة النوّاب الاشتراكيين في البرلمان الأوروبي، إيراتكس غارسيا بيريز: «اليوم هو يوم أسود مظلم للمؤسسات الأوروبية». وقد استغرب البعض سفر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الدوحة، في قلْب هذه العاصفة، بحجّة متابعة مباراة الفريق الفرنسي مع المغرب. ولا يَستبعد المطلعون أن تطاول الفضيحة مشرّعين فرنسيين، خصوصاً أن لحكومة بلادهم علاقة خاصّة ومثيرة للجدل، منذ عقود، مع الدوحة في مجالات تشمل الأمن والطاقة والثقافة والعقارات، وهو ما ينطبق أيضاً على بريطانيا التي لم تَعُد، مع ذلك، عضواً في الاتحاد الأوروبي. على أن أقوى الانتقادات جاءت من طرف الرئيس الهنغاري، فيكتور أوربان، الذي كتب على «تويتر»: «البرلمان الأوروبي الفاسد، هو من يتّهم هنغاريا بالفساد».
ومن المعروف أن أعضاء البرلمان الأوروبي يتقاضون رواتب محترمة، ويحصلون على بدلات سخيّة. لكن دعاية بعضهم المستمرّة لقطر ودفاعهم المستميت عنها، أثارا الارتياب، لا سيما في حالة كايلي التي دافعت بحرارة عن سجلّ قطر في مجال حقوق الإنسان خلال مداولات البرلمان الشهر الماضي، وأشادت بالإمارة باعتبارها «رائدة في مجال حقوق العمّال»، متّهمةً البعض في الهيئة بممارسة التمييز ضدّ هذه الدولة. كما أن نقابيّاً بارزاً كان، من بين جميع الناس، الأكثر إعجاباً علنيّاً بجودة قوانين العمل القطرية. لكن الإمارة، مع ذلك، رفضت أيّ مزاعم بسوء السلوك، ونفى مسؤول في ممثلية الدولة الخليجية الثرية التي كان أميرها، تميم، وزّع، قبل أيّام، جوائز (عالمية) لـ«الشفافية ومكافحة الفساد»، «أيّ ارتباط للحكومة القطرية بالمزاعم المبالَغ فيها والمضلّلة بشكل خطير».