تتواصل تداعيات سيطرة «الدولة الإسلامية» على مناطق شمال ووسط العراق. بعد فرض «الدولة» مشهد جغرافياً جديداً عبر فتحه الحدود بين سوريا والعراق، وآخر إجتماعياً عبر فرضه نمط حياة غريباً عن أهل تلك المناطق، ينتقل التنظيم إلى «التطهير» الطائفي، عبر تهجير العراقيين المسيحيين والأقليات الأخرى من الموصل، ما يكرس خريطة سياسية جديدة للعراق، قد تكون بدايةً لتقسيم محتمل لبلاد الرافدين.
والحديث عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء (سني، شيعي، كردي) ليس جديداً، غير أن تهجير المسيحيين من الموصل سبقه قبل أسبوع تحقيق نشرته مجلة «ذي إيكونوميست» الأميركية، تتوقع فيه منح العراقيين المسيحيين والأقليات الأخرى «منطقة آمنة» في سهل نينوى الخاضع لسيطرة قوات البشمركة الكردية. وتحدثت المجلة عن ضغط أفراد من الجالية العراقية في الولايات المتحدة على واشنطن باتجاه إعطاء المسيحيين والأقليات الأخرى «جزءاً رابعاً من العراق»، ضمن مشروع محتمل لتقسيم البلاد.
أمهل «الدولة الإسلامية» المسيحيين الموصليين أسبوعاً واحداً انتهى ظهر السبت الفائت، لتقرير مصيرهم. وزع التنظيم بياناً على سكان الموصل التي تضم نحو 30 كنيسة يعود تاريخ بعضها إلى ما قبل 1500 سنة، يضع أمام المسيحيين في المدينة أربعة «خيارات»: إعتناق الإسلام، أو إعطائهم «عهد الذمة» بعد دفع الجزية (450 دولاراً)، أو مغادرة المدينة من دون أي أمتعة، أو القتل. كذلك، جاء في البيان أن ممتلكات «النصارى» في المدينة تعود ملكيتها منذ الآن إلى «الدولة الإسلامية»، وذلك عقب وضع حرف الـ «ن» (نصارى) على منازل المسيحيين.
ونقل بعض الشهود من داخل المدينة أن «الدولة» دعا المسيحيين، يوم الجمعة الفائت، عبر المساجد إلى المغادرة، مهدداً من يمتنع من المغادرة بالتصفية الجسدية.
في اليوم التالي، أُفرغت ثاني أكبر مدينة عراقية من المواطنين المسيحيين، حيث غادرت العائلات شمالاً باتجاه كردستان، بالتزامن مع مصادرة «الدولة» أملاكهم وضمّها لأملاك «دولة الخلافة».


البطريرك ساكو:
لأول مرة تفرغ الموصل من المسيحيين

في السياق، أكد بطريرك الكلدان الكاثوليك في العراق والعالم لويس رافائيل ساكو، أنه لأول مرة في تاريخ العراق تفرغ الموصل من المسيحيين، مؤكداً أن العائلات المسيحية تنزح باتجاه دهوك وأربيل في إقليم كرستان.
يبلغ عدد المسيحيين في العراق، اليوم، نحو 400 ألف مواطن، يقطن معظمهم في مناطق الشمال، فيما كان عددهم نحو مليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي عام 2003.
وتمثل الموصل حاضنةً للطوائف المسيحية القديمة، التي ترجع إلى أولى حقبات إنتشار المسيحية. بعضهم تعود جذورهم إلى النسطورية، حيث توجد في الموصل اليوم كنيسة واحدة للنساطرة، وهي إحدى كنائسهم القليلة في العالم. قسمٌ منهم التحق في ما بعد، بروما، كطائفة الكلدان الكاثوليك، وهي أكبر طائفة مسيحية في بلاد الرافدين.
منذ هجوم «الدولة الإسلامية» على محافظة نينوى، مطلع حزيران الفائت، نزح آلاف من سكان الموصل المسيحيين إلى المناطق المجاورة، خصوصاً إلى سهل نينوى، على حدود المحافظة مع إقليم كردستان.
قبل أسبوع، نشرت مجلة «ذي إيكونومست» تحقيقاً عن واقع المسيحيين في الموصل، محاولةً الترويج لفكرة خلق «منطقة آمنة» لهم في سهل نينوى، الخاضع لسيطرة قوات البشمركة الكردية، وذلك بعد طرحها سؤالاً حول كيفية حماية كنائس الغرب لمسيحيي العراق. تقول المجلة الأميركية إن «المعضلات التي تواجه مسيحيي العراق تدفعهم إلى حماية مستقبلهم عبر التكتل في منطقة آمنة، وعبر السعي إلى تعزيز إستقلالية هذه المنطقة». وترى أن المنطقة المزعومة يجب أن تكون في سهل نينوى أو في مكانٍ ما تحت سيطرة الحكومة الكردستانية، مثل عنكاوا، إحدى ضواحي أربيل.
وتضيف المجلة أن إلحاق المسيحيين العراقيين بإقليم كردستان كان فكرةً مطروحة في السنوات الماضية، إلا أن الكنيسة العراقية ترددت حيال هذا الموضوع، على اعتبار أن المسيحيين «موجودون على امتداد العراق».
وفي نهاية الشهر الفائت، عقد أساقفة أربيل لقاءً طرحت فيه «أفكار» في هذا الصدد. في ذلك اللقاء قال البطريرك ساكو صراحةً: «مستقبل مسيحيي العراق هو كردستان».
وفي إجابةٍ على سؤال حول احتمال تقسيم العراق، أشار ساكو إلى أنه يعتقد بوحدة «رمزية» للبلاد، مضيفاً أنه في حال التقسيم إن «الدار الطبيعي للمسيحيين سيكون مع الأكراد». لكنه لفت في المقابل إلى أن هناك مسيحيين في بغداد وفي البصرة جنوباً، وفي حالة هؤلاء «الصداقة الكردية لن تستطيع مساعدتهم».
فكرة «المنطقة الآمنة» للمسيحيين والأقليات الأخرى كالشبك والتركمان الشيعة واليزيديين وغيرهم من سكان الموصل، تقودها اليوم على ما يبدو مجموعة ضغط مكونة من أفراد من الجالية العراقية الكلدانية في الولايات المتحدة. إذ تنقل «ذي إيكونوميست» أيضاً، عن رئيس الغرفة الكلدانية الأميركية للتجارة، مارتن منّا، قوله إن «خيار سهل نينوى يجب أن يظل قائماً»، خصوصاً أن العلاقات الكردية ـــ المسيحية «لطالما كانت ودّية». وفيما يُحكى اليوم عن تقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء، تساءل رئيس أكبر مجموعة أعمال عراقية في مدينة ديترويت: «لماذا لا يكون العراق أربعة أجزاء؟ بحيث يكون الجزء الرابع للمسيحيين والأقليات الأخرى».
ولهذه الغاية، يعتزم منّا عقد لقاءات مع مسؤولين في الإدارة الأميركية في إطار مطالبة الأخيرة «بالاعتراف بأن بقاء المسيحيين والأقليات الأخرى على قيد الحياة في العراق بات مشكلةً حقيقية».