اختلف المشهد جذريّاً في العراق منذ تولّي حكومة محمد شياع السوداني، مهامّها قبل أسابيع، بحيث تمارِس عملها بسلاسة فاقت المتوقَّع، الأمر الذي يعكس تغيّراً جوهريّاً في موقع البلد الإقليمي والدولي، بشكل صار يمكن معه الحديث عن دور يقوم به العراق خارج حدوده، بعدما كان، على مدى سنوات طويلة، ساحةً للصراعات وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية. وما الإجراءات التي تتّخذها الحكومة، سواء في ما يتعلّق بالحملة على الفساد التي ما زال من المبكر الحديث عن مدى نجاحها، أو ما يتّصل بالتغييرات البنيوية التي تشهدها أجهزة الدولة، ومنها الأجهزة الأمنية، إلّا تجلٍّ لهذا التغيير. وتُظهر مقارنة بسيطة أن أداء الحكومة الحالية التي تمثّل قوى يتّهمها خصومها بأنها تقف وراء الفساد، أكثر إنجازاً على هذا الصعيد من حكومة مصطفى الكاظمي السابقة، التي جاءت تحت شعار مكافحة الفساد الذي استشرى أكثر خلال فترة حُكْمها.أمّا في ما يتعلّق بحملة التغييرات التي طاولت الأجهزة الأمنية، فقد استهدفت خصوصاً التشكيلات التي تمّت خلال رئاسة الكاظمي للحكومة، وهي كانت متوقّعة باعتبار أن رئيس الوزراء السابق حاول، خلال ولايته التي استمرت عامَين، ومن خلال التعيينات التي أجراها، تغيير مهامّ هذه القوى، الأمر الذي يفسِّر الصدامات التي حدثت بين الأجهزة الأمنية وبين «الحشد الشعبي» وفصائل المقاومة أكثر من مرّة خلال تلك الفترة، ما كاد يُغرق العراق في أتون حرب داخلية، خاصة بسبب الطريقة التي تعاملت بها تلك القوى مع التظاهرات التي أعقبت الانتخابات التشريعية، حين تساهلت مع تظاهرات «التيار الصدري»، وضيّقت على «الإطار التنسيقي».
ما تقدَّم يعكس تحوّلاً في السياسة الأميركية تجاه العراق، بحيث لم يَعُد لدى الولايات المتحدة ترف استخدام البلد ساحة لتصفية الحساب مع إيران. وهذا وحده كفيل بأن يضمن الاستقرار الداخلي للعراق لفترة طويلة، شرط أن تستمرّ الظروف التي أدّت إلى هذا التغيير، وهي متشعّبة، لكنّ القاسم المشترك بينها هو النفط.
منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، كانت الولايات المتحدة تستخدمه ساحة ضدّ إيران، لكنّ الأخيرة تمكّنت، نتيجة علاقتها بقوى المعارضة العراقية لصدام، من أن تُقاسِم الأولى النفوذ فيه، أو تفوقها نفوذاً في بعض المراحل. وفي كل الأحوال، أصبحت الدولتان هما الأكثر تأثيراً في الساحة الداخلية العراقية. فالتحولات الكبرى في السياسة الأميركية تجاه العراق لم تحصل دفعة واحدة، وإنّما على مراحل، بدءاً من تاريخ الانسحاب الأول في عام 2011، الذي كان من العلامات المبكرة لرغبة واشنطن في تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط، بما في ذلك في دول الخليج. ومع التدهور المتدرّج للعلاقات الأميركية - السعودية ابتداءً من عام 2001، تحت صدمة هجمات 11 أيلول، وصولاً إلى تحوّلها إلى علاقة صراع ضمن التحالف في السنوات الأخيرة، ومن ثم اندلاع حرب أوكرانيا، صار لزاماً على الولايات المتحدة البحث عن مصادر نفطية تؤمّن استقرار أسواق الطاقة العالمية. والعراق الذي تتحكّم الأخيرة بالكثير من مفاصل اقتصاده، هو المرشّح الأفضل للقيام بهذا الدور، لأنه يملك أحد أكبر احتياطات النفط في العالم، وينتج حالياً أربعة ملايين برميل بصورة رسمية، يمكن أن ترتفع بسرعة كبيرة، إذا توفّر عاملان، هما: الاستقرار السياسي والأمني، والاستثمار في صناعة النفط.
انزعاج سعودي من التغييرات الأخيرة في الأجهزة الأمنية العراقية


ومن هنا، يأتي الانزعاج السعودي الكبير الذي يعبّر عنه إعلام المملكة من التغييرات الأخيرة في الأجهزة الأمنية العراقية، ومن التعبيرات المتكرّرة للولايات المتحدة عن الرضى عن أداء حكومة السوداني الذي أبدته تكراراً السفيرة الأميركية في بغداد، آلينا رومانوسكي، التي كانت أوّل من هنّأ رئيس الوزراء عند تكليفه، وعند نَيْل حكومته ثقة مجلس النواب. ويعكس هذا الانزعاج خشية سعودية من تعطيل سلاح النفط الذي استخدمته لابتزاز واشنطن بهدف إجبارها على إبقاء مظلّتها الأمنية فوق المملكة ودول الخليج، وفق صيغة «الحماية مقابل النفط» القائمة منذ عشرات السنوات، ولا سيما أن هذا الابتزاز تحت إدارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تحوّل إلى تلويح بتغيير تحالفات السعودية لتصبح مع روسيا والصين بدلاً من الولايات المتحدة.
ولأن الثقل النفطي في عالم ما بعد حرب أوكرانيا، يُصرف تأثيراً سياسياً كبيراً، فإن العراق سيكون، في السنوات المقبلة، صانع سياسة، أكثر منه ساحة صراع، على رغم أنه من غير المتوقّع أن تختفي المشاكل الداخلية الناجمة عن تركيبة السلطة سواء بين المكوّنات أو داخل المكوّن الواحد، والتي أدّت، تحت نظر الاحتلال، إلى فشل في أدائها دفع ثمنه المواطنون تدهوراً في مستوى المعيشة وانهياراً للخدمات، كما هو حال الكهرباء، واستشراء الفساد ونهب الأموال العامة.
تَخلّي الولايات المتحدة عن استخدام العراق ضدّ إيران، لا يعني وجود اتفاق بينهما على ذلك. فما زالت الأولى تصنّف الأخيرة دولة غير صديقة، وتحاصرها اقتصادياً. وتفاقم تدهور العلاقات بين البلدين بعد فشل التوصّل إلى اتفاق نووي، والاتهامات الأميركية لإيران بمساعدة الروس عسكرياً في أوكرانيا، والدخول الأميركي بالتعاون مع إسرائيل ودول خليجية على خطّ التخريب في الداخل الإيراني من خلال محاولة تحويل التظاهرات إلى صراع مسلّح في أكثر من منطقة إيرانية. وضمن هذا السياق بالذات، يأتي ما يجري على الحدود الإيرانية مع كردستان العراق، حيث يتمّ تهريب السلاح إلى داخل المناطق الكردية في إيران، والذي ما كان ليحصل بلا موافقة زعيم «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، مسعود بارزاني، الذي لا يمكن له أن يفعل ذلك إلا بدفع أميركي وإسرائيلي وخليجي، لأنه يعرف الارتدادات السلبية لمثل هذا التدخّل على الإقليم.
الجديد هو أن أميركا تفصل بين ما يجري في الداخل العراقي حيث تريد الاستقرار، وبين العبث بملفّ داخلي إيراني انطلاقاً من كردستان العراق. ومع ذلك، تبقى إمكانية النجاح هنا محدودة، نظراً إلى مخاطر الملفّ الكردي على المنطقة ككلّ، وهو ما دفع بها إلى استخدام الأكراد ثم التخلّي عنهم مرّة بعد أخرى، وآخرها عندما انسحب الأميركيون من الكثير من المناطق الكردية في سوريا، ما تركهم فريسة سهلة لتركيا.