تتراوح الاستجابة التركية تجاه سوريا، حالياً، بين تهديدات يوميّة يُطلِقها الرئيس رجب طيب إردوغان بالقيام بعملية عسكرية بريّة، وبين نقاشات تدور في فلك الموقف التركي من دمشق وإمكانية المصالحة معها، وارتباط ذلك من عدمه بالانتخابات الرئاسية التركية المزمع إجراؤها في حزيران المقبل. وفيما كان إردوغان يقول إن بلاده «ستحلّ مشكلتها الأمنية من هاتاي (الإسكندرون) إلى الحدود الإيرانية، وستنشئ حزامها الأمني»، توقّعت مصادر كردية أن يبدأ الهجوم البرّي في الـ27 من تشرين الثاني الجاري، على اعتبار أن هذا التاريخ يصادف ذكرى تأسيس «حزب العمال الكردستاني»، لكن ذلك لم يحدث، بسبب غياب الموافقة الأميركية - الروسية إلى الآن، على ما يبدو.ويتحدّث فهيم طاشتكين، في صحيفة «غازيتيه دوار»، عن المناطق الثلاث التي يريد إردوغان استهدافها في العملية البرّية، وهي تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني). فالأولى «هي مركز وجود القوات الكردية التي جاءت من عفرين، وفيها أيضاً عناصر من الجيش السوري والميليشيات الشيعية الموالية لإيران». لهذا، يرى أن دخول الجيش التركي إلى هذه المنطقة «سيصبّ في مصلحة الولايات المتحدة، ومن البديهي أن تعطي أميركا الضوء الأخضر لعملية تركية هنا. لكن المخاطَب هنا بالنسبة إلى تركيا، هو روسيا، حيث يواجَه تغيير الستاتيكو القائم في شمال حلب باعتراض قوي من قِبَل سوريا وإيران. ولكن هناك سيناريو آخر، وهو أن تسمح موسكو لأنقرة بالسيطرة على منطقة صغيرة بحيث لا تخلّ بموازين القوى على الأرض». والمنطقة الثانية، أي منبج، تتمركز فيها «وحدات حماية الشعب» الكردية، وتعدّ مركزاً مهمّاً يربط الحسكة وحلب عبر طريق «أم 4»، ويتحكّم بسنترالات الكهرباء المقامة على نهر الفرات، فيما ينتشر الجيش السوري في المناطق المحيطة بها. ويلفت الكاتب إلى أن «الشراكة الأميركية مع الأكراد في شرق الفرات والوجود التركي في غربه، يخدمان استراتيجية الولايات المتحدة، فيما توسُّع الجيش التركي في منبج، لن يخلق أيّ مشكلة لواشنطن ما دام لا يضيّق على شراكتها مع الأكراد». أمّا كوباني، «فلا تعني الكثير للأميركيين، ولكنّها تمثّل رمزاً بالنسبة إلى الأكراد؛ ففيها وُضعت أسس الشراكة بينهم وبين واشنطن عندما دافعوا عن المدينة ضدّ داعش في عام 2014، حين كان إردوغان يصلّي لسقوطها». ويرى طاشتكين أن التهديد التركي للأكراد مهمّ بالنسبة إلى روسيا لجهة وظيفته في تخريب العلاقات الأميركية - التركية، وفي دفْع الأكراد نحو دمشق. لكن لهذه السياسة حدوداً وضوابط، إذ إن فتْح روسيا المجال الجوي لتركيا - ولو جزئيّاً - سيغضب دمشق كما طهران. لذا، فإن موسكو، يقول طاشتكين، «لا يمكن أن تمنح ضوءاً أخضر لتركيا من دون تنفيذ الأخيرة التزامات في إدلب، وضرْب التنظيمات الإرهابية، وفتْح طريق أم 4. أمّا الولايات المتحدة فلن تعطي ضوءاً أخضر لتركيا يمكن أن يعرّض طرق الإمداد الأميركي من القامشلي إلى فيشخابور، ومن القامشلي إلى عامودا، ومن عامودا إلى الحسكة، للخطر».
بحسب البعض، يبقى شعار أتاتورك «سلام في الوطن، سلام في العالم» أساساً لتموضع سليم لتركيا في جغرافيا صعبة التضاريس


ويتوقّف أحمد ياووز مطوّلاً، من جهته، في صحيفة «جمهورييات»، عند تحوّلات السياسة الخارجية التركية، والتي يرى «أننا لا نعرف مدى جدّيتها، وما إنْ كانت تعكس رغبة فعليّة في تغيير السياسة المتّبعة منذ 2011، أم أنها مرتبطة بالانتخابات الرئاسية». وتعكس تصريحات الرئيس التركي، بحسب ياووز، رغبة في محادثات مباشرة مع نظيره السوري، بشار الأسد، من دون معرفة الدافع وراء هذه الرغبة، وإنْ كان ممكناً إيراد عاملَين وراءها: «الفشل في إسقاط الأسد من جهة، والخطر المتزايد غير المحسوب لقوّة وحدات حماية الشعب الكردية من جهة ثانية. ومن المجمَع عليه، أن مستوى الأمن على الحدود السورية أقلّ بكثير ممّا كان عليه قبل عام 2011. والسؤال أيضاً: ما دام خطر الإرهاب يتزايد، فلماذا حصلت العمليات الجوية الأخيرة بعد العمل الإرهابي في إسطنبول وليس قبْله؟والسؤال التالي، هل العملية البرّية ضرورية؟». الإجابة، يقول ياووز، تكمن في الهدف السياسي من العملية البرّية، «فإذا كانت حاجة ظرفيّة في سياق عسكري، فهي حلّ مؤقت، لأن الحلّ الرئيس هو في تغيير الهدف السياسي وجعْله يركّز على دعْم الدولة السورية. عندها يمكن توجيه ضربة قاصمة للتنظيمات الإرهابية. يجب القتال من أجل سلام دائم وليس من أجل الربح في معركة. وإلّا فلن يخدم أيّ عمل عسكري المصلحة الوطنية». وفي المجال نفسه، يرى الخبير الأمني المعروف، عبد الله آغار، أن العملية العسكرية البرّية ليست سهلة على الإطلاق، كونها تصطدم بصعوبات جمّة، وعلى رأسها اتّساع المنطقة المراد السيطرة عليها في شرق سوريا، ومواجهة ما لا يقلّ عن 65 ألف مقاتل من الأكراد، فضلاً عن مخاطر إطلاق سراح الآلاف من معتقَلي «داعش» من معسكرات الاعتقال الكردية. لكن، وفق آغار، «لا حلّ أمام تركيا سوى تنفيذ وعيدها بتنظيف كامل المنطقة في شمال سوريا من المقاتلين الأكراد».
ويكتب أوزديم صانبرق، الديبلوماسي العريق والمدير العام السابق لوزارة الخارجية التركية، بدوره، عن تحوّلات السياسة الخارجية لإردوغان، قائلاً إن «موقع تركيا الاستراتيجي بين البلقان وآسيا والشرق الأوسط وشرق المتوسط يتطلّب نخبة حاكمة على قدْر عالٍ من الحكمة والبصيرة والموثوقية، لاتّخاذ قرارات تستند إلى الحقائق والتجارب المثبتة القادرة على التنبّؤ والتوازن وتجنُّب التغييرات المفاجئة الحادّة، وألّا تكون محدّدات السياسة الخارجية دوافع للسياسات الداخلية». ويضيف صانبرق أن «تركيا نجحت، خلال مئة عام، في الحفاظ على استقلالها وسلامتها والبقاء بعيداً من الحرب العالمية الثانية. لكن التطوّرات الداخلية، خلال السنوات العشر الأخيرة، أبعدتْها عن المبادئ الأساسية للجمهورية في السياسة الخارجية، وتسبّبت في المشكلات الخطيرة التي تعاني منها اليوم، وأساسها أن إدارة دولتنا غيّرت الحمض النووي للسياسة الخارجية، تاركةً المبادئ العلمانية والعقلانية والواقعية التي قامت عليها أسس الجمهورية، وتحوّلت إلى مبادئ تستند إلى الدين والمذهب والأيديولوجيا. لم تَعُد قرارات السياسة الخارجية تؤخذ وتنفَّذ بالتنسيق مع وزارة الخارجية، بل تتمّ صياغتها في النظام الجديد، وفقاً لتقدير رئيس الجمهورية». ويتابع: «هذا هو الأمر الذي جعل الحكومة تعتقد بأن المعتقدات الدينية والانتماءات المذهبية ستشكّل أساس السياسات التي ستغيّر منطقة الشرق الأوسط. لذلك، ركّزت تركيا، في مرحلة ما بين 2011 و2022، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على هدف تحويل المنطقة إلى نوع من اتّحاد إسلامي على خُطى الإخوان المسلمين، وهو ما فتح الباب أمام علاقات مضطربة بينها وبين بلدان المنطقة ومجتمعاتها، وتعرّضها للعزل الديبلوماسي». ويخلص صانبرق إلى أن «التطورات الأخيرة في المصالحات، ومنها تجاه دمشق، لا يمكن أن تنجح إذا لم تَعُد تركيا في سياستها الخارجية إلى مبادئ العلمانية والعقلانية، وتتخلّى عن المنطلقات الدينية والمذهبية. ولهذا، يستمرّ شعار أتاتورك «سلام في الوطن، سلام في العالم» أساساً لتموضع سليم لتركيا في جغرافيا صعبة التضاريس وتشهد تغيرات دائمة».
في المقابل، انصبّت الكتابات الموالية لـ«العمال الكردستاني» على انتقاد أطماع وخطط الرئيس التركي للقضاء على الحركة الكردية، ورمزها كوباني. وفي هذا الإطار، يكتب سعاد بوزكوش، في صحيفة «يني أوزغور بوليتيكا» الكردية الموالية لـ«الكردستاني»، أن الهدف الأساسي للتنظيمات المتطرّفة («داعش» وأخواته)، كان «قوات حماية الشعب الكردية، والتي وصلت ذروتها في معركة كوباني»، مضيفاً أن «هدف إردوغان كان احتلال الشريط الحدودي داخل سوريا بعمق 30 كيلومتراً، أي القضاء على منطقة الأكراد. فهو كان يهاجم شمال سوريا كلّما سنحت الظروف له، وفي الوقت نفسه يمارس قمعاً يوميّاً ضدّ حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي)». وفي الصحيفة نفسها، تدعو أرزو إلى الدفاع عن كوباني، لأن إردوغان، بحسبها، «لم يستوعب بعد هزيمة داعش في كوباني. الدفاع عن كوباني هو مسؤولية كلّ مَن يسعى لعالم آخر خالٍ من الهمجية الرأسمالية».