كيف يمكن أن تصير الحياة هكذا؟ كيف نعيشها؟ بالإيمان وحده؟ ربما. لكن الحياة في غزّة فوق هذا كلّه. يختصر صاروخ كل ضحكات الأطفال المخبأة في حنايا المنازل، يقلعها من جذورها ويذريها في الريح. هنا كان منزل كامل. هنا... لم يعد هناك شيء. كيف أنقذ كل حياتي في 51 ثانية؟ وللذي لا يعرف، فالإحدى والخمسون ثانية هو الوقت الفارق بين الصاروخ الإرشادي الذي تطلقه الطائرة الزنانة (طائرة من دون طيار) وبين الصاروخ المدمر. وسيكذب عليك أحدهم ويخبرك بأن المدة أكثر، لا تصدقه، انه يكذب. يُرمى السهم، يسقط البطل.
هنا ليس كما في أفلام هوليود، حيث يعود البطل إلى الحياة عند نهاية القصة، ويتنبه الجميع إلى أن كل ما حدث من دمار و دماء، كان ببساطة حلماً، فيستيقظ البطل من نومه، و يعود كل شيء كما كان في السابق. هنا في غزة لا شيء وكل شيء –في نفس الوقت- يشبه الأحلام. كيف يميز المرء؟ ماهو الخط الفاصل بين الحقيقة المجردة والخيال؟
 هكذا تُسرد الحكاية: سقط الصاروخ الأول فوق منزل آل كوارع في خان يونس جنوب قطاع غزة، كانوا يتناولون طعام الإفطار، كانوا كثراً، لا أريد أن أقول كثراً، أريد أن أعدّهم واحداً واحداً؛ كانوا سبع عشرة روحاً جميلةً، ثمانية أفرادٍ من العائلة نفسها و تسعُ شهداء من الأقارب و الجيران الذين كانوا قد انضموا اليهم للإفطار قبل الحادثة. أريد أن أستذكر أسماءهم ووجوههم وضحكاتهم وذكرياتهم جميعها المرسومة في ذلك المنزل. جاء الصاروخ الثاني بعد إحدى وخمسين ثانية! بلا أي تحذيرٍ بلا أي فرصة للإخلاء، بلا أي أمل. رحلوا. ستذكر وسائل الإعلام كلها غداً أنهم رحلوا. سيرفع أحدٌ ما حاجبيه حزناً على الخبر، ستبكي فتاةٌ ما. ستخبئ أمٌ في مكان وجه طفلها عما حدّث ولن تشرح له إياه، مهما سأل. هكذا باختصار تنتهي الحكاية. 

هنا في
قطاع غزة لا شيء وكل شيء يشبه الأحلام


أما أنا، فأجلس في غرفتي، أتأمل كثيراً حجارتها، لأول مرة أحس برغبةٍ في تأمل تلك الغرفة، السرير، «الكومودينو»، الملابس، لكن الأهم من هذا، الذكريات. المنازل لا تعني احداً إن لم يكن هناك ذكريات. فالذكريات هي ما يصنعنا، هي ما يجعلنا نحنُ نحنُ. ارتدينا هذا القميص يوم عرس قريب، لبست هذه يوم وداع عزيز. هنا جلستُ وبكيت يوماً، هنا قرأت. هناك تأملت. هنا جرحت اصبعي، هنا وهنا وهنا. هكذا تُقتل الذكريات. كيف أحمل كل هذا الوقت-الذكريات وأركض به فجأة إذا ما وقع الصاروخ الأول؟ ماذا أحمل؟ كيف أختار أي ذكرى أحمل؟ هل من الممكن أصلاً حمل الذكريات؟ ونقلها؟ كيف ينقل أهل غزّة ذكرياتهم؟ لربما لا يهتم أحد. لربما يناقشون أنفسهم كل مرةٍ: نعيش لنخلق ذكرياتٍ أخرى، نحن «بريد الذكريات» ونحن صنّاعها.
إن الصهاينة لا يقتلون الناس فقط في غزّة. إن طائراتهم تلاحق الأحلام. يعتقد كثيرون أن المقاومة فعلٌ عبثي، وأن الصواريخ المطلقة من غزّة لا تؤثر. لا يهم. فعلاً لا يهم. المهم هو أنهم يحمون أحلامنا. أنا كنت في المخيّم (برج البراجنة) إبان عدوان 2006، أصرّ والدي على أن نبقى فيه بعدما غادر معظم الناس الضاحية الجنوبية لبيروت تحت وطأة الضربات الجوية الصهيونية. والدي قال يومها: «لن أغادر من هنا إلا لفلسطين؛ أو جثةً هامدة، فليأخذ الله أمانته». بقينا معه وقتها، نظرنا في وجهه، كان كل الإصرار هناك. لم نناقشه، وإن امتعضنا بدايةً. عشنا كل أصوات الصواريخ، يومها لم يقصف الصهاينة المخيّم لكن كل ضربةٍ كانت تجعل قلبي ينكمش في مكانه. كيف حال قلوب أهل غزة؟ كيف تشعر؟ لا أدري ولا أدعي أنني أدري. لكن ما أدريه أنني كلما كنت أسمع أن المقاومة ترد، كنت أفرح.
في اليوم الأول للحرب لم أنم. لم أستطع النوم أبداً، كانت الأصوات أقوى من النوم عندي. لربما هو الخوف. في الأيام التي تلت، اعتدتُ، وجربت النوم، واستيقظتُ هلعة من ضربةٍ عنيفة. كيف ينامون في غزة؟ في كل لحظةٍ كنت أتوقع أن يضربنا الطيران. في كل غصة صوتية كنت أتوقع الأمر. ماذا يتوقع من هم في سني في غزّة؟ وهم يعرفون أن الطيران المعادي يعد عليهم أيامهم؟ يومها لم أكن أعرف الإجابة؛ يومها كنت أصغر سناً، أما اليوم فأنا أعرف الأمر كثيراً، أعرف ماذا يفعلون... يقاومون. بأحلامهم يقاومون، بكل ما فيهم من حياةٍ يقاومون، بكل ذكرياتهم يقاومون، بقليلٍ من نبضٍ معلق بالهواء... يقاومون. يقاومون ويقاومون ويقاومون. إن كل شيءٍ في غزّة يقاوم. والصواريخ لا تعدو أكثر من أحلامٍ نرسلها إلى حيث نستطيع.




من تقاليد العدو الصهيوني في حروبه ( سواء في عدوانه المتكرر على قطاع غزة او حتى في حربه على لبنان عام ٢٠٠٦) ان يقتل المدنيين الابرياء و يدمر قدر استطاعته البيوت و المنشآت. والسبب في ذلك انه لا يستطيع احتمال صبر الناس و تأييدهم المتكامل لمقاومة بلادهم في ظل فقدانهم لأولادهم و العديد من افراد أسرهم. يحاول جاهداً ان يقضي على آمالهم و أحلامهم و حتى ذكرياتهم، لعلهم يخافونه و يرتعبون من وحشيته فيميلون للاستسلام و يضغطون على مقاومتهم لإنهاء الحرب.