تونس | اختتمت «القمّة الفرنكفونية»، يوم أمس، دورتها الـ18 التي أُقيمت، على مدى يومين، في مدينة جربة التونسية، تحت شعار «التواصل في إطار التنوّع: التكنولوجيا الرقمية رافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرنكفوني». وحضر القمّة التي شاركت فيها 89 دولة، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو. وكان مقرّراً للقمة أن تُنظَّم العام الماضي، لكن الظروف التي أحاطت بتونس بعد إجراءات الـ25 من تموز 2021، حالت دون انعقادها.وأرادت تونس، من خلال هذا الحدث، توجيه رسالتَين، الأولى إلى الخارج لتأكيد قدْرتها على توفير الأمن لدى تنظيم مثل هذه التجمعات الدولية، ممّا يشجّع على تنشيط السياحة في هذا البلد واستقدام المستثمرين الأجانب، والأهمّ طمأنة «صندوق النقد الدولي» إلى استقرار الوضع السياسي والأمني، لتتمكّن تونس من الحصول على قرض مالي لمواجهة أزمتها الاقتصادية. وفي هذا الإطار، سارعت فرنسا إلى الاستثمار، عبر منح البلد المضيف قرضاً بقيمة 200 مليون يورو، كما وقّع الرئيسان التونسي قيس سعيد، والفرنسي ماكرون «مخطّطاً طموحاً لتعزيز مهارات اللغة الفرنسيّة للمعلّمين والطلاب في التعليم»، وفق ما جاء في بيان أصدره الإليزيه. أمّا الرسالة الثانية، فوجِّهت إلى الداخل، وهدفها التأكيد أن القمّة ستجلب استثمارات ضخمة للبلاد تسهم في خفض معدّلات البطالة المرتفعة، والحدّ من ظاهرة الهجرة غير النظامية والتي لا تزال تزعج الجانب الأوروبي. وتُعدُّ مسألة الهجرة من بين المشكلات التي تؤرّق فرنسا التي تحاول، من جهتها، وضْع حد لها من خلال توظيف «مستعمراتها السابقة» والضغط عليها في هذه الناحية، وهي التي كانت سبّاقة إلى فرض التأشيرات على دول المغرب العربي، في مخالفة واضحة لمبادئ الفرنكفونية.
وجاءت القمّة في ظلّ تغيّر الوضع السياسي في العالم، ولا سيما في «المستعمرات» الفرنسية السابقة، وتحديداً في القارة الأفريقية التي تشهد موجة تغيير ثقافي كبيرة، مع استبدال اللغة الفرنسية بالإنكليزية، على اعتبار أن الأخيرة لغة تخاطب عالمية؛ ووسط خفوت الحضور السياسي والأمني لفرنسا في دول عدة في موازاة تنامي الحضور الروسي والصيني، ما يشكّل تهديداً جديّاً على حضور فرنسا في منطقة «تاريخية» لها. كل هذه العوامل تضغط على باريس لإيجاد آليات عمل جديدة تحافظ من خلالها على نفوذ عالمي عبر الفرنكوفونية.
منحت فرنسا تونس قرضاً بقيمة 200 مليون يورو لمواجهة أزمتها الاقتصادية


وخلال كلمة ألقاها في افتتاح القمّة، وجّه سعيد رسالة طمأنة إلى الداخل، مفادها أن «تونس كسبت الرهان في تحدّي الصعوبات التي حاول البعض وضعها لتغيير موعد القمّة ومكان انعقادها». أمّا رسالته إلى فرنسا والعالم، فكانت أن «القمّة هي فرصة لتأكيد أحلام الشعوب بغدٍ أفضل تسوده العدالة والحرية والقيم العليا والتي من حقّ الجميع تقاسمها». ولا شكّ في أن انعقاد القمة في تونس يُعدّ إشارة مهمّة إلى فكّ العزلة الدولية عنها بعد الهجوم الذي شُنّ على نظام قيس سعيد بفعل مراسيمه، والاستفتاء الذي أجراه على الدستور في الـ25 من تموز الماضي. ويؤكد ما سبق، موقف الخبير السياسي الفرنسي، فينسان جيسار، من أن انعقاد القمّة يمثّل «نجاحاً» لسعيد، لأنّها «ستُخرجه من عزلته مؤقّتاً على الأقل». وأضاف جيسار، في تصريح لوكالة «فرانس برس»، قائلاً: «إنه نوع من التقاط أنفاس وتهدئة في علاقاته (سعيد) مع شركائه الغربيّين الرئيسيّين... سيوظّف هذا الحدث لإضفاء الشرعيّة على تحوّل سلطوي يُنتقد بشدّة من المنظّمات الحقوقيّة المحلّية والدوليّة والأحزاب السياسيّة المعارضة».
من جهتها، سارعت المعارضة التونسية إلى التقاط الفرصة، مستغلّة أزمة غرق المهاجرين غير النظاميين في عرض البحر الأبيض المتوسط، لتؤجّج الاحتجاجات على مقربة من مكان انعقاد القمّة في جزيرة جربة. وفيما اعتبرت «جبهة الخلاص» المعارضة أن تنظيم القمّة «استغلال من قِبَل سلطات الانقلاب للتسويق للانقلاب»، دعت المشاركين إلى مساندة المسار الديموقراطي في تونس. وهي لم تبذل مجهوداً لخلق توتّر في جربة؛ فعلى بعد كيلومترات قليلة منها، تعيش مدينة جرجيس الساحلية، منذ أسابيع، حالة احتقان لم يهدأ نتيجة تجاهل السلطات لمأساتها المتمثّلة في غرق العشرات من شبّانها خلال عملية هجرة غير نظامية في اتجاه أوروبا. ولم تبذل السلطات المحلية، من جانبها، أيّ مجهود لانتشال الجثث أو حتى دفنها بعد تحديد هوياتها، ما عمّق مصاب الجهة التي عجزت حتى عن تشييد قبور لغرقاها الذين سجّلتهم المحافظة في مقبرة جماعية تحت ملاحظة غرباء وكائنات بحرية. لذلك، كان من البديهي أن يستغلّ أبناء المدينة إقامة القمّة في الجزيرة المحاذية لمدينتهم، حتى يذكّروا السلطة بجرائمها وتجاهلها لمصابهم، لكن قوات الأمن منعت المتظاهرين من الوصول إلى مقرّ انعقاد القمّة، وعنّفتهم وتولّت توقيف عدد من النشطاء، ما يكشف أن الرئيس الذي اكتفى ببرقيات تعزية للأهالي كان على استعداد لاستعمال كافة الوسائل حتى لا تتعالى أصوات مشوّشة على قمّته.
وتعليقاً على أحداث جرجيس، دعا «الاتحاد العام التونسي للشغل» إلى إضراب عام في المدينة يومَي 24 و25 الحالي، على خلفية التعاطي السلبي مع ملفّ الغرقى. بدورها، التقطت «حركة النهضة» الحدث واستثمرته في إحراج الرئيس وحكومته، وندّدت، في بيان، بالتعامل الأمني مع المحتجّين من حيث الاعتقالات العشوائية والاستعمال المفرط للقنابل المسيلة للدموع، مؤكدة تقصير السلطة في إغاثة الغرقى، وفي عدم القيام بالإجراءات الطبية والدينية لدى تعاملها مع الجثث المنتَشَلة والتي تم دفنها، بحسب البيان، في مقبرة «الغرباء».