انتظرت تركيا أقلّ من أسبوع للردّ على تفجير شارع الاستقلال في اسطنبول، والذي جاء اتهامها لـ«حزب العمال الكردستاني» و«قسد» بالوقوف وراءه، بمثابة «فرصة» ذهبية لتدشين حملة أو نصف حملة في شمال سوريا، تسعى، منذ الربيع، إلى شنّها. لكن «الفيتو» الأميركي - الروسي الذي حال، حتى الآن، دون وقوعها، بدا، ممّا بيّنته جملة مؤشرات، قابلاً للتضييق، إذ غضّ البلدان الطرف عن الغارات التي استهدَفت الأكراد في شمال العراق وشمال سوريا، حيث لا يزال ممكناً أن يتوسّع نطاق العمليّة الجويّة في حال قرّرت السلطات التركية المضيّ قُدُماً في ترميم هيبتها على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية
قبل اكتمال أسبوع على ذكرى التفجير الذي ضرب شارع الاستقلال في مدينة إسطنبول، كانت تركيا تنفّذ عمليّة جوية واسعة ضدّ قواعد مفترَضة لـ«حزب العمال الكردستاني» في شمال العراق، ولـ«وحدات حماية الشعب» الكردية في شمال سوريا. وبدأت العملية، التي أُطلق عليها اسم «المخلب السيف»، منتصف ليل السبت - الأحد، وشملت قواعد في العراق، وفي كل من تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) السورية، حيث استُعملت، بحسب وسائل الإعلام التركية، جميع أنواع الأسلحة من مقاتلات وطائرات مسيّرة وصواريخ مختلفة. وعن ملابسات العمليّة، أوضحت وزارة الدفاع التركية أنها نُفّذت «انتقاماً للاعتداءات الآثمة التي استهدفت شارع الاستقلال». وأتت تصريحات مسؤولي حزب «العدالة والتنمية» في هذا السياق، إذ رأى الناطق باسم الرئاسة، إبراهيم قالين، أنه «حان الوقت للانتقام للاستقلال»، فيما لم يَفت الناطق باسم الحزب، عمر تشيليك، القول إن الغارات التركية استندت إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والذي يمنح الدولة المعتدَى عليها حقّ الدفاع المشروع عن أمنها وأراضيها. أمّا وزير الدفاع، خلوصي آقار، فلفت إلى أن «دفْع الإرهابيين ثمن اعتداءاتهم سيتواصل». وكان بيان وزارة الداخلية التركية الذي أعقب تفجير إسطنبول مباشرة، رسم «خريطة طريق سهلة» تُحدِّد الجهة التي تقف وراء الهجوم، والمكان الذي جاءت منه المرأة المتّهمة بتنفيذ العمليّة. واتهم البيان «حزب العمال الكردستاني» و«وحدات حماية الشعب» بالضلوع في تنفيذ الهجوم، مشيراً إلى أن المرأة المتّهمة قدمت إلى إسطنبول من عفرين، وتلقّت التعليمات من مسؤول في «الكردستاني» موجود في عين العرب، وأن مصدر القنبلة إدلب.
ولم يتّضح بعد ما إذا كانت تركيا ستكتفي بالغارات الجويّة أم أنها ستقوم بعملية بريّة، علماً أن مراسلي التلفزيونات التركية لم يلحظوا أيّ استعدادات عسكرية لهجوم برّي. وفي كلتا الحالتَين، لا يزال قرار القيام بعملية عسكرية موضع شكوك، كونه يتطلّب موافقة مبدئيّة من كل من روسيا والولايات المتحدة، اللتَين اعترضتا، إلى جانب إيران، في الربيع الماضي، على مثل هذه العملية. ويمكن، في هذا الاتجاه، التوقّف عند مؤشّرات «ليونة» أميركية - روسية: الأوّل هو بيان أصدرته القنصلية الأميركية في أربيل، يوم الجمعة الماضي، قالت فيه إن الأتراك يمكن أن يقوموا بعمليّة عسكرية ضدّ «العمال الكردستاني»، مطالبةً المواطنين الأميركيين بتوخّي الحذر في تنقّلاتهم، وهو ما يفضي إلى احتمال المعرفة المسبقة للأميركيين بنيّة الأتراك القيام بعملية عسكرية. ويُشار، في هذا الإطار، إلى أن الغارات التركية حيّدت مناطق الوجود الأميركي (إلى جانب قوات «قسد»)، ما يشي بتوافق تركي - أميركي ما.
لم يتّضح بعد ما إذا كانت تركيا ستكتفي بالغارات الجويّة أم أنها ستقوم بعملية بريّة


والمؤشر الثاني على «المرونة» جاء من جانب روسيا، حيث استَخدم سلاح الجوّ التركي المجال الجوي السوري الذي تسيطر عليه موسكو في مناطق شمال حلب، وصولاً إلى عين العرب، وهو ما يحدث للمرّة الأولى منذ التدخُّل الروسي في سوريا عام 2015. ودائماً ما كان «الفيتو» الروسي حول استخدام المجال الجوي الذي تسيطر عليه، موضع خلاف بين أنقرة وموسكو، وحائلاً دون قيام الأتراك بعمليات عسكرية بريّة تفتقد إلى غطاء جوي ضروري. فهل يُعدّ ما تقدَّم مؤشراً إلى تغيير في قواعد الاشتباك في سوريا بين كل من روسيا وتركيا وسوريا؟ أم أنه يمكن أن يكون، على الطريقة اللبنانية، «لمرّة واحدة وأخيرة»؟وإذا كان الأمر كذلك، فهل يعني أن تركيا ستكتفي بالغارات الجويّة؟ أم أن استخدام المجال الجوي الروسي سيبقى مفتوحاً وستعقبه عملية بريّة واسعة، وبموافقة روسية؟
ولا شكّ في أن تركيا تستفيد من عامَلين مهمّين: الأوّل انشغال روسيا في الحرب الأوكرانية ورغبتها في عدم فتْح بؤر توتّر جديدة تشغلها عمّا هو أهمّ بالنسبة إليها؛ والثاني انشغال إيران بمواجهة الاضطرابات الداخلية، مِن مِثل الهجمات المسلّحة على قواها الأمنيّة والتظاهرات التحريضيّة بذريعة قضيّة مهسا أميني. وفي ظلّ حاجة إردوغان الجامحة إلى استعادة الهيبة التي تلقّت ضربة من جراء انفجار تقسيم، فقد يعتقد الأتراك أن روسيا وإيران سترضخان للرئيس التركي وستوافقان على عملية عسكرية تركية «محدودة ومدروسة» في شمال سوريا. ومن شأن الساعات أو الأيام المقبلة أن تُظهر طبيعة موقفَي روسيا وإيران من رغبة إردوغان في التقدُّم برّاً واحتلال عين العرب ومنبج وتل رفعت وفرض معادلة جديدة في الساحة السورية يستفيد منها كثيراً في الانتخابات الرئاسية في حزيران المقبل.
وعلى رغم أن رغبة تركيا في القيام بعملية عسكرية بريّة واسعة جديدة في سوريا ليست جديدة، إلّا أن هذا ينقلنا إلى الربط بينها وبين تصريح إردوغان الأخير من أنه مستعدّ للقاء الأسد «لأنه ليس هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة» بين الدول. وإذا كان الإعلامان العربي والعالمي ركّزا على هذا الجزء من حديث إردوغان، لكن اهتمامهما بالشقّ الثاني من الجواب والذي قد يكون الأهمّ، جاء أقلّ من المتوقّع. ربْط إردوغان اللقاء - في حال كان ممكناً - بما بعد الانتخابات الرئاسية التركية، يعكس عدم جديّة في الرغبة في المصالحة مع دمشق في الأشهر القليلة المقبلة. فمَن يدري ما الذي سيجري بعد الانتخابات؟ فإذا خسر إردوغان، ينتهي كل شيء ويطوي صفحته مع دمشق، وإذا فاز سيعود قويّاً بعد أن يكون انتصر في حرب كونيّة ضدّه لم يكن إلى جانبه فيها سوى روسيا وإيران. ولكنه سيعود أكثر غطرسة حتى بمواجهة الأخيرتَين.
لكن لماذا لا يريد إردوغان لقاء الأسد، أو إرجاء اللقاء إلى ما بعد الانتخابات؟ يمكن، في هذا الإطار، التوقّف عند ثلاثة مؤشرات:
1- المعارك العسكرية في مناطق سيطرة تركيا، واحتمال أن تعمل الأخيرة على توحيد الفصائل ضمن «جيش نظامي» جديد، على حدّ تعبير صحيفة «تركيا» الموالية، ليكون ناظم الأمن الوحيد في المنطقة من إدلب وعفرين إلى جرابلس والباب وربما إلى «المناطق الجديدة» التي يمكن أن تتوسّع فيها أنقرة من تل رفعت وعين العرب ومنبج.
2- وجود وزير الداخلية، سليمان صويلو، في إدلب أثناء تفجير إسطنبول، حيث كان يحتفل بتوزيع مفاتيح بيوت الطوب الجديدة على عدد من السوريين، ما يعني أن خطط توطين اللاجئين لا تزال متواصلة.
3- بيان وزارة الداخلية التركية الذي اتهمت فيه «قوات حماية الشعب» الكردية في عفرين وعين العرب، بالوقوف وراء انفجار إسطنبول، ما يعني أن الرغبة في غزو تلك المناطق لا تزال موجودة.
ترتيب الوضع في مناطق الشمال السوري سواء لجهة الأمن واللاجئين وتوسيع مناطق الاحتلال لوصل إدلب وعفرين بعين العرب ومنبج عبر تل رفعت، يحتاج إلى بعض الوقت الإضافي حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة، بالتالي تأجيل أيّ خطط مفترضة للقاء يجمع إردوغان والأسد. كما أن من شأن هذا الترتيب أن يبلور نطاقاً جغرافياً موحّداً وواضحاً لمناطق النفوذ التركي يكون منطلقاً لتكون الأخيرة في وضع قوي للمفاوضات حول مصير المناطق الشمالية في أيّ محادثات مصالحة مع الدولة السورية. وإلّا فإن الاحتلال التركي سيكرّس، مع واقع المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة وقوات «قسد»، خريطة تقسيم وتفتيت دائمة لسوريا.
وتطرح السرعة في تطبيع تركيا علاقاتها مع إسرائيل، بعد تبادل السفراء بينهما، والبطء بل المراوحة في ما يروّج عن مصالحة تركية مع سوريا، علامات استفهام كثيرة حول جديّة الرغبة التركية في المصالحة. فمنذ تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، في مطلع آب الماضي، لم تحدث أيّ خطوة تركية في اتجاه التقارب مع سوريا. لكن ما يثير الاستهجان أكثر أن سوريا وإيران وروسيا وحلفاءهم لا يزالون، باستثناءات نادرة ومحدودة جداً، منذ أوّل دخول تركي إلى سوريا عام 2016، يتحرّكون على توقيت «الساعة التركية»، فمتى يتحرّكون وفقاً لساعة هم يضعونها لمواجهة الآخرين؟