ترجمة بتصرّف لمقتطفات مختارة من خاتمة كتاب «برق بدّد الغيوم: عزّ الدين القسّام وتشكيل الشرق الأوسط الحديث» (منشورات جامعة تكساس 2020)، ننشرها بالتنسيق مع الكاتب
قبل أيام قليلة من الانتصار الإسرائيلي الحاسم في حرب عام 1967، وقبيل تعيينه وزيراً للدفاع، قام موشي ديان بزيارة القوات الإسرائيلية المتمركزة في مدينة بئر السبع، في صحراء النقب. يذكر ديان في مذكراته لقاءه حينها بشخص يعرفه منذ زمن بعيد، يشير له ديان بأنه العربي الذي يعتمد عليه، وهو من المجنّدين البدو في البالماخ، كان قد تعرّف إليه منذ طفولته في «موشاف نهلال» شمال فلسطين. والاسم العبري المستعار لهذا المقدّم في جيش الدفاع الإسرائيلي هو «عاموس يركوني». اصطحب ديان «عاموس» إلى منزله لمقابلة زوجته، وتحدّثا عن ذكرياتهما القديمة معاً، إلا أن موضوع النقاش الرئيسي بينهما، الذي يذكره ديان في مذكراته، وقبل أيام من أحد أهم الفصول في تاريخ إسرائيل، كان عز الدين القسّام.
يطوف شبح القسّام على جزء كبير من ذكريات طفولة ديان، بما يعكس بشكل جليّ رأيه في العرب. كان ديان أحد الحراس الليليين في نهلال، ليلة مقتل يوسف يعقوبي على يد القسّاميين في كانون الأول من عام 1932. ورغم مرور 35 عاماً، لا يزال ديان يرى في القسّام والرجال من أمثاله، كبعبع لتطلّعات اليهود في أرض إسرائيل.
«الشهيد عزالدين القسام وصحبه ابطال ثورة 1936»، للفنان برهان كركوتلي (1980)

بعدها بأسبوع، وتحديداً في الخامس من حزيران من العام ذاته، وفي اجتماع عقد بعد الظهيرة جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي أشكول إلى قائد أركان الجيش إسحاق رابين، سأل الأخير ديان عمّا يفكّر فيه خلال الإعداد للهجوم الإسرائيلي على جنين، فأجاب إن علينا أوّلاً الاستيلاء على يعبد، مبرراً ذلك بأن «لها تاريخاً» حيث إنها المكان الذي باع فيه أبناء يعقوب أخاهم يوسف، ولكن، كان الأهم من ذلك هو أنها المكان الذي «قتل فيه القسّام».
في أعقاب الحرب، توغّل الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتوقف في بلدة نزلة الشيخ زايد، وتحديداً أمام منزل صغير مصنوع من الحجر الجيري الأبيض على جانب التل، فوق البقعة التي قتل فيها القسّام. نزل جنود الجيش الإسرائيلي من سياراتهم وبدأوا بتفتيش المنزل الذي يعود لدار وصفي. ومن غير المعروف هل أن الأمر كان مصادفة، أم أنهم قد سمعوا الأسطورة وجاؤوا ليتأكدوا بأنفسهم، حيث إنهم أثناء بحثهم وجدوا سيفاً، وهو سيف الشيخ القسّام، كانت عائلته قد ائتمنته لدى دار وصفي في أربعينيات القرن الماضي، والذين كانوا من أوائل المؤيدين له. وهذا السيف هو ذاته الذي ذكره الشيخ يونس الخطيب في تأبين القسّام أثناء جنازته.
أخذ الجندي الإسرائيلي السيف من دار وصفي، ليكون بذلك استولى على البقايا الملموسة من حياة القسّام. فبالإضافة إلى السيف، ضاع صندوق يجمع حاجيات القسّام أثناء فرار أمينة القسّام (زوجة القسّام) من جبلة عام 1948، فكل حاجياته اختفت ولا نعلم اليوم أين هي.
هل كان وطنياً فلسطينياً أم إسلامياً أم قومياً عربياً؟ الأكثر ترجيحاً أنّ كلّ هذه التصنيفات لا تكفي حين إسقاطها على شخصيّة مخضرمة كالقسّام


شكّلت حرب 67 نقطة تحول أخرى في تاريخ فلسطين، فقد غيّر احتلال غزة والضفة الغربية الخريطة السياسية داخل الدوائر الوطنية الفلسطينية. حيث إن عدم مقدرة الدول العربية المجاورة على مساعدة الفلسطينيين من خلال القوة العسكرية لجيوشهم، ولّدت روحاً لدى منظمة التحرير الفلسطينية، معتمدةً على الذات في مجال العمل الثوري. ولذلك استدعى انبثاق هذا السياق إلى لغة سياسية جديدة برموزها وأساطيرها الخاصة بها: القدس، قبة الصخرة، النسور والأسود، والكلاشينكوف، الكوفية، فرسان على صهوة الخيول، وأخيراً عز الدين القسّام. حيث تمّت عملية إعادة اكتشاف واستحضار القسّام: في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.
جرت العادة في معظم الدول الحديثة على أن عملية صناعة الأساطير القومية تعتمد على مؤسسات تعيد إنتاج التاريخ بشكل مشبع بروايات تتوافق مع أيديولوجية الدولة. بينما في الحالة الفلسطينية، جعلت مسألة غياب الدولة عملية بناء سردية وطنية مهيمنة، تستحضر الأيام الأولى لتكوين هذا الشعب، عملية معرّضة بشكل دائم لخطر الحرب والمنفى والاستعمار. انطلاقاً من ذلك، فإن رمزية شخصية القسّام، ولما تتمتع به من سحر ومتانة، ظلّت معتبرة ومحترمة من قبل الفلسطينيين على طول الطيف السياسي. قد يبدو اليوم ظهور القسام على ملصقات حركات يسارية غريباً الآن (يتحدّث الكاتب هنا عن ملصق لـ«الجبهة الديموقراطية» يخلّد الذكرى الأربعين لاستشهاد القسام)، وذلك لأن هذه الحركات كانت الشائعة خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، ورغم صعود حركات مقاومة اليوم بأيديولوجيات جديدة، إلا أن رمزية القسّام استمرت.


تدل هذه الاستمرارية الرمزية للقسام، بين التيارات اليسارية والإسلامية، على متانته كرمز رغم التغير والمد والجزر في الأيديولوجيات السياسية على مستوى العالم، ولكنها تعكس أيضاً، غياباً لدراسة تاريخية محكمة لتاريخه. إنّ لدراسة تاريخ حياة القسام تعقيدات عديدة، إمّا تجاهلها المؤرخون السابقون، أو تم التقليل من شأنها عن قصد. فعلى سبيل المثال، تمّت محاولة تهميش لهويته الشخصية، حيث سادت خلال العقود الثلاثة الماضية تجاذبات، بين من أحال نشاطه إلى نزعته القومية، وبين ما كان واضحاً أنها قوته الدافعة، ألا وهي الإسلام. فهل كان القسام وطنياً فلسطينياً أم إسلامياً أم قومياً عربياً؟ الأكثر ترجيحاً أن كل هذه التصنيفات لا تكفي حين إسقاطها على شخصية مخضرمة كالقسام، وغيره الكثير من الشخصيات التي عاصرته، حيث إن الانتماءات السياسية التي يشار لها هي في حدّ ذاتها في حالة تغيّر مستمر.
من نواحٍ عديدة، يحتاج الفلسطينيون إلى القسّام، فقبل عام 1935 لم يكن لأبطالهم المدى الجماهيري ذاته، فلربما كان بإمكان الحاج أمين الحسيني قيادة تظاهرات احتجاجية، لكن علاقته مع الإنكليز أفشلت مجاراته للتطلّعات الفلسطينية على المستوى الوطني. يمكننا المجادلة بأن فؤاد حجازي يمثّل أحد أقرب النماذج لحالة البطولة، وهو أحد المشاركين في تمرّد عام 1929 ومن ثم شنق في عكا، ويبدو أن حجازي نفسه كان يرى موته أمراً مرجحاً، ويُزعم أنه أخبر الشرطي الإنكليزي دوغلاس داف في سجن عكا في الليلة التي سبقت صعوده المشنقة:
«خذ هذه الصورة لي. ستعيش لترى أنها ستزخرف رايات العرب
تقودهم إلى النصر وتخرج الإنكليز من فلسطين
لم يكن موتي عاراً
سأظهر الطريق لشبابنا، لقيادتهم في القتال الذي لن يتوقف أبداً
حتى طرد آخركم من البلاد»