عمان | وقّع الأردن، في التاسع من الشهر الجاري، مذكّرة تفاهم مع الإمارات وإسرائيل، على هامش «قمّة المناخ» في شرم الشيخ في مصر، تثبيتاً لإعلان النوايا، «الطاقة مقابل المياه»، الذي كانت وقّعته الأطراف الثلاثة على هامش معرض «إكسبو دبي» في تشرين الأوّل الماضي. وإذ ستُنشئ الإمارات، بموجب الاتفاق، محطّات توليد طاقة شمسية على الأراضي الأردنية، لتزويد دولة الاحتلال بالكهرباء مقابل تزويد الأخيرة الأردن بمياه الشرب، فإن هذه الخطوة التطبيعية ليست الوحيدة التي أقدمت عليها المملكة، في إطار سعْيها لإنهاء أزمتها المائية. ففي مطلع تموز 2021، خرج وزير المياه والريّ، محمد النجار، مُنذراً الأردنيين بتعاظم مشكلة الجفاف في الصيف بسبب تراجُع الهطول المطري وتزايُد الاعتداءات على المياه. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التصريح، وقّعت عمّان، ممثّلةً بالنجار، مع تل أبيب، اتّفاقاً لشراء 50 مليون متر مكعّب من المياه، إضافة إلى ما هو منصوص عليه في «معاهدة وادي عربة» عام 1994.
ستنشئ الإمارات محطّة للطاقة البديلة على أراضي الأردن بحلول عام 2026 (من الويب)

خلفية تاريخية
مبكراً، تَورّط الأردن في مشاريع الانتداب البريطاني ومساعي الحركة الصهيونية التي أدخلت مياه نهرَي الأردن والليطاني في حدود الدولة اليهودية الجديدة، منذ بعثتها الاستكشافية الأولى عام 1867. وفي عام 1926، منحت سلطات الانتداب، رئيس «المجلس الوطني اليهودي» بنحاس روتنبرغ، امتياز إقامة محطّاتٍ لتوليد الكهرباء باستخدام مياه نهرَي الأردن واليرموك في منطقة الباقورة الأردنية، وهو ما أثار احتجاجات ودعوات مقاطعة شعبية. وعلى إثر ذلك، استقال رئيس الوزراء الأردني، علي رضا الركابي، رفضاً للمصادقة على الاتفاق، قبل أن تأتي الحكومة التالية برئاسة خالد أبو الهدى وتُصادق عليه، علماً أن المشروع المذكور، بما شمله من إنشاء لمحطّات الكهرباء ومدّ للكوابل والأعمدة وإقامة لخزّان مياه على طبريا، أعاد ترسيم جغرافيّة فلسطين، وحدّد سياسات الهجرة التي استقطبت المستوطِنين إلى المناطق الحضَرية.
خلال حرب النكبة، قصف الجيش العراقي منشآت المشروع المُقامة على أراضي الباقورة، لكن القوّات الإسرائيلية احتلّت الباقورة نفسها عام 1950 حتى عام 1994. وبموجب «معاهدة وادي عربة»، أجّر الأردن أراضي منطقتَي الباقورة والغمر لدولة الاحتلال، التي نصبت في الأولى، بموجب «عقد الإيجار» الممتدّ لـ25 عاماً، مضخّات تسْحب المياه الفائضة من نهر اليرموك وتصبّها في طبريا. وكان السفير الأميركي، إريك جونسون، طوّر، عام 1953، خطّة موحّدة لمصادر مياه وادي الأردن، حيث بلغت حصّة المملكة 720 مليون متر مكعّب معظمها من نهر اليرموك، بما يغطّي الضفة الغربية التي كانت جزءاً من الأردن في الخمسينيات، ويستجيب للأهداف الصهيونية في توطين اللاجئين الفلسطينيين خارج أراضيهم، فيما بلغت حصّة إسرائيل 400 مليون متر مكعّب معظمها من نهر الأردن، ووُزّع الباقي بنسب ضئيلة بين سوريا ولبنان. وإذ رفض مجلس «جامعة الدول العربية» المصادقة على الخطّة تفادياً لتخزين مياه نهر اليرموك في بحيرة طبرية التي تقع تحت إشراف السلطة اليهودية، وارتفاع نفقات إنشاء السدود والمحطّات الكهربائية على عاتق الحكومات العربية، واحتجاجاً على الحصّة الجائرة بحق سوريا ولبنان، فإن الأردن استقبل جونسون في اجتماع مع المسؤولين الأردنيين وتمسّك بحصته، في حين استغلّ الاحتلال موارد المياه في مشاريع أحادية لا تتقيّد بالتقسيم المقترَح.
الأردن عملياً لا حصّة له من النهر الذي يحمل اسمه، فيما تتراجع باستمرار حصّته من نهر اليرموك


على إثر النكسة، استولت إسرائيل على حصّة الضفة الغربية وعلى جزء من حصّة الأردن، وقامت بتحويل منابع مياه نهر الأردن لاستغلالها في زراعة صحراء النقب وإقامة المستوطنات في مشروع «الناقل الوطني» الإسرائيلي عام 1959. وبدلاً من تعويض المملكة عن مواردها المسلوبة في خطّة جونسون وما تبعها من مشاريع إسرائيلية، انطوت المادة السادسة والملحق الثاني في «معاهدة وادي عربة» على مزيد من الانتهاكات في ملفّ المياه، إذ اتّفق الطرفان على أن تضخّ إسرائيل من اليرموك 12 مليون متر مكعّب في الصيف، و13 مليون متر مكعّب في الشتاء، فيما للأردن الحق في المتبقّي، على ألّا تَضرّ استخداماته الحصّة الإسرائيلية. كذلك، لم تتضمّن المعاهدة معايير وحصصاً واضحة بخصوص نهر الأردن، وأعطت الأولوية للاستخدامات الإسرائيلية في ما يخصّ التخزين. وحتى في البند الخاص بتنازل الاحتلال عن المياه الجوفية في وادي عربة مقابل التعويض، عاد الأردن وتنازل عن تلك المياه، بالنظر إلى أن تكاليف التعويض باهظة جدّاً، ولارتفاع نسبة الملوحة في الوادي.
بالنتيجة، الأردن عملياً لا حصّة له من النهر الذي يحمل اسمه، فيما تتراجع باستمرار حصّته من نهر اليرموك، الذي ضخّ فيه الاحتلال مياه الصرف الصحّي عامَي 1998 و2009، ما تسبّب بتلوّث مجراه بطول 6 كلم، وكاد يصل إلى محطّة «زي» التي تزوّد العاصمة عمّان بنحو 35% من مياه الشرب. أيضاً، تنصّل الاحتلال من البند الذي يقضي بإيجاد مصادر مائية تُوفّر للأردن 50 مليون متر مكعّب سنوياً، وهي الكمّية التي تضطرّ المملكة لشرائها، ويستعرضها الاحتلال كبادرةٍ لـ«تحسين علاقات الجوار والاستقرار في المنطقة».

الاتفاق الأخير
بموجب الاتفاق الأخير، ستنشئ الحكومة الإماراتية محطّة للطاقة البديلة على أراضي الأردن بحلول عام 2026، من أجل تزويد الاحتلال بـ600 ميغاواط سنوياً من الكهرباء المولَّدة من الطاقة الشمسية. في المقابل، ستدفع إسرائيل مبلغ 180 مليون دولار سنوياً تتقاسمها الشركة الإماراتية مع الأردن، على أن يشتري الأخير بحصّته، من الجانب الإسرائيلي، 200 مليون متر مكعَّب من المياه المُحلَّاة. الجديد، في هذا الاتفاق، بخلاف تعزيز الارتهان والتبعية، هو الدور الذي مارسته منظّمة «إيكوبيس» التطبيعية المُقامة على أراضي الأردن، حيث وضعت أُسس الصفقة في الخطّة التفصيلية التي نشرتها في كانون الأول عام 2020، باسم «الصفقة الخضراء الزرقاء للشرق الأوسط». كذلك، يعبّر «التفاهم» عن فجوة سيادية في الحاجة إلى الموارد، تُخلّ بموازين القوى وتجعل الطرف الإسرائيلي أكثر تأثيراً على القرارات الأردنية؛ إذ تمتلك إسرائيل وتدير أكثر من خمس محطّاتٍ لتحلية المياه على طول البحر المتوسّط، الفائض منها ستُقدّمه لسدّ 20% من مجمل المياه في الأردن، بينما لن تتجاوز الكهرباء المزوَّدة بها إسرائيل 2% من استطاعة التوليد الكهربائي هناك.
وإذ يستبعد البعض حدوث سيناريوات تصعيدية، فمن الجدير التذكير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي (المكلَّف حالياً)، بنيامين نتنياهو، رفض، في أوائل نيسان الماضي، تزويد الأردن بثلاثة ملايين متر مكعّب من المياه صيف 2020، عندما أعلنت إسرائيل نيّتها ضمّ أراضٍ واسعة في الضفة الغربية. كما ماطلت دولة الاحتلال لسنوات في تنفيذ مشروع «قناة البحرين» القائم على أساس ربْط البحر الأحمر بالبحر الميت لتحلية المياه وسدّ العجز المائي الأردني، ما اضطرّ الأردن لاحقاً إلى إلغائه. ومع السحب الجائر لمياه حوض الديسي والتكلفة الباهظة لخطّ نقلها، يبحث الأردن تطبيق مشروع الناقل الوطني لتحلية البحر الأحمر في العقبة، من أجل توفير 300 مليون متر مكعّب سنوياً من مياه الشرب. وحتى تحقيق ذلك، ترتهن المملكة للاتفاقيات الإسرائيلية التي لا تجلب فقط عار التطبيع، وتجلّي سوء الإدارة ومحدودية الخيارات، بل تؤدّي دوراً مدروساً يخدم الاحتلال ضمن خارطته لاقتصاد طاقة منخفض الكربون بحلول عام 2030.