«الشهيدُ يُحاصرُني كُلَّما عِشْتُ يوماً جديداًويسألني: أَين كُنْت؟»
«حالة حصار» - محمود درويش

مع كل يوم جديد، هناك شهيد جديد، يسألني «أين كنت؟»، وفي كل مرة، لا أجد إجابة حقيقية ترد على السؤال..
يرحلون لنبقى، لكنهم يفعلون شيئاً آخر في رحيلهم، بأن يتركونا في حيرة، من أين ابتدأ الكلام، كلامهم، وهل حين انتهى فعلهم، انتهى الكلام.

يكون الشهيد بيننا واحد عادي، لا تدرك في ملامحه، حكاية غير عادية، لكنه الشهيد، بعد أن يستشهد، يغير كل شيء، نتذكر ضحكته، وملامح وجهه، صورة له، نرى في كل شيء، ما يدل على أنه كان سيكون شهيداً.. كيف حملت تلك الملامح كل تلك التأويلات، من أين أتت؟ لن يعرف أحد، فالشهادة تضع نفسها في تاريخ الشهيد منذ ولادته، وتعيد رسمه وتشكيل حياته في وعي الذين عرفوه، والذين سيعرفون بعد استشهاده من صورة وبوستر وقصة ووصية يتركها لنا جميعاً.
كان ياسر عرفات كما وصفه محمود درويش «الفصل الأطول في حياتنا»، كان حلمنا القديم، وحلمنا المتجدد بإمكانية تحقيق شيء على الأرض، أرضنا «فلسطين الجديدة» التي تبعث بأولادها وأحرارها من أحلام العالم بدمارها النهائي، وبقاء المسلسل الممل الذي وضعوا ممثليه فيها، وسموه «إسرائيل». ظل عرفات والشهداء الذين تقدموا وسيقدمون على مذبح فلسطين، حكايتنا الأساسية في الحياة مع أسرانا، ومع كتاباتنا المستمرة عنهم، حتى يتحقق لهذه الكتابة أن تستشهد أيضاً على مذبح الوطن، كما استشهد غسان كنفاني، وكما استشهد ماجد أبو شرار، وكما استشهد باسل الأعرج، وكما استشهد محمد الدرة، وكما استشهد باسل عودة، وكما استشهد من استشهد من قبل، وكما سيستشهد يوماً مطر عدوان كاتب هذا الكلام. إن حقيقة أن نكون جميعاً شهداء، إن لم نسلم بها، كأبناء شعب فلسطيني وعربي وعالمي يؤمن بحرية فلسطين، لن نتحرر، ولن نحظى بالأرض التي يزاود من أجلها كثر، ويزاود عليها كثر.
إن فلسطين، لن تكون إلا لمن ينتمي إليها إيماناً في القلب يصدقه العمل، فهي لأولئك الذين في أقاصي الدنيا ويؤمنون بها، لأولئك الذين في قربها ويأتون حدودها ولا هم لهم إلاها، وهي لأبنائها في الداخل والخارج.
أتذكر قبل سنوات، حصار المقاطعة، مقر الرئيس الشهيد أبو عمار، والحالة التي انتابت المخيمات، حالة الخوف على الأب الذي سنفقده إن لم نفعل كل شيء، وكان كل شيء يمكن فعله، هو التظاهر، على الأقل في الخارج، والذهاب إلى المقاطعة لفك الحصار في رام الله، كان الانتظار طويلاً، كانت كنيسة المهد محاصرة أيضاً، كانت الانتفاضة، وكان مخيم جنين يقاوم القصف والحصار، كان كل شيء محاصر، كما كل شيء محاصر اليوم، لكن ثمة فروقات، منها أن الشعارات في تلك السنوات كانت قليلة، بينما اليوم، كل الكلام شعارات، حتى إنها لم تعد طنانة، وفرق آخر، أن الفعل اليوم كما قبل، فعل لا يتطلب ضجيجاً، يجري بصمت تام، ونسمع في آخره عن شهيد أو شهيدين، أو عن المنفذ الذي تمكن من الفرار. لم يستطع عرفات النجاة في حصاره الأخير، لم تقصف المقاطعة كما قصفت أبنية وجد فيها في بيروت، ونجا، فقد اعتاد الاحتلال، وشارون المتمرس في مطاردة عرفات والخسارة، أن قصف عرفات لن ينجح، إنما الحصار للمرة الثانية، وصحيح أن شارون «نجح» هذه المرة بقتل «الفصل الأطول في حياتنا» إلا أنه فشل في فك الحصار عن «إسرائيله» فحاصرها جدار بنوه حولهم، وحاصرتها ذاكرتنا، ويحاصرهم من قبل عرفات ومن بعده تناسل الشهداء والأسرى، يستشهد الشهيد فيولد غيره، ونراه في الصورة بعد قليل من استشهاده، وندرك أنه كان بيننا، ولكننا لم ندرك أنه ذاهب نحو حياته الجديدة، وحتى ندرك مثله، علينا أن نزرع أسماء الشهداء في تراب الورد، ليزهر «زعتراً ومقاتلين».