غزة | لم يحظَ أبو عمار في حياته بالشعبيّة والإجماع الوطني نفسَيهما اللذين حصل عليهما بعد وفاته. رئيس حركة «فتح» و«منظّمة التحرير»، سَجّل مسيرة مزدحمة بالتناقض والجدل؛ فهو المقاتل الذي صنعت المتاريس والبندقية بطولته وزعامته، سواءً في حرب «الجهاد المقدس» التي انخرط فيها تحت قيادة عبد القادر الحسيني، أو في «حرب الفدائيين» في قناة السويس، أو في تفجير نفق «عيلبون»، ثمّ أمسى المُفاوض الذي «باع وفرّط وتنازل»، وصولاً إلى مشاركته في جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، عام 1995، كما فعل خلَفه محمود عباس في جنازة رئيس حكومة العدو الأسبق، شمعون بيريز، عام 2016. غير أن الفارق العجيب أن «الرمز» أُجبر على دخول باحة استقبال المعزّين، من الباب الخلفي، وعلى خلْع كوفيّته وبزّته العسكرية. فضلاً عن ذلك، لم تخلُ فترة حُكم عرفات من ممارسةِ أشدّ أساليب القمع بحقّ خلايا حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، حيث يسجّل التاريخ الشعبي ضربة عام 1996، التي اعتَقل فيها جهاز الأمن الوقائي كافة العناصر القيادية الفاعلة في الحركتَين. لكن، يحق القول إن لقب «الرمز» أضحى وصفاً فلسطينياً مقروناً بالرجل، كما تحوّلت عباراته التي كانت تثير سخرية المنافسين، إلى شعارات وطنية، يردّدها قادة بحجم يحيى السنوار، فمِن أين للراحل هذه الرمزية؟
رحل عرفات بعد إدراكه أن برنامج المفاوضات لم يكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني (من الأرشيف)

تَحفظ الذاكرة الجمعية لأبو عمار تَمكّنه من تحقيق إنجازات اقتصادية ملموسة، على رغم أنها غُلّفت بقائمة كبيرة من التنازلات الوطنية. ففي عهده، تمكّن الفلسطينيون، لأوّل مرّة في تاريخهم القديم والمعاصر، من السفر عبر مطار دولي مُقام على أرضٍ تحت سيطرتهم الصرفة، سافروا منه إلى مختلف دول العالم، وعاشوا فترة رخاء اقتصادي لم تتكرّر إلى اليوم، فضلاً عن واقع حياة شبه مستقرّ، اجتهد كلّ مَن خلفوه في تحقيق نصفه. من جهة أخرى، تَفرض المقارنة بينه وبين أبو مازن نفسها على «الفتحاويين» ومُعارضيه من الفصائل الأخرى. على رغم كمّ التحفّظات الكبيرة على «النهج العرفاتي»، فإن عشر سنوات من حُكمه لم تشقّ النسيج المجتمعي الفلسطيني، ولم تشهد انقسام حركة «فتح» إلى «فتوحات متناحرة»، أو وصْم الأجهزة الأمنية وعناصرها، وهم مكوّن كبير من الشارع، بتُهم «العمالة والخيانة وحراسة الاحتلال». إلى جانب ذلك، لم يتعاطَ الرجل على أنه رئيسٌ مؤسّساتي لدولة مكتملة المعالم، بقدْر ما احتفظ لنفسه بصِبغته الثورية؛ فهو الحاكم الأبوي الروحي لسلطة تركت ثورتها في الجوهر، لكنها احتفظت بالكاريزما والخطاب والظاهر.
حَظيِت خطابات أبو عمار باهتمام الشارع وحماسته، وذلك على عكس الرئيس البرجوازي الحالي


حَظيِت خطابات أبو عمار باهتمام الشارع وحماسته، وذلك على عكس الرئيس البرجوازي الحالي، الذي أهمل في خطابه المعلَن وممارسته العملية، كلّ عناصر الجذب الشعبي، بل واستعدى جميع مكونات المجتمع، من العشائر إلى الفصائل والعائلات التاريخية، وحتى الكيانات النقابية. ظَهر «رجل المقاطعة الحالي» في صورة الغريم الذي يَعتبر نفسه الأذكى والأكثر فهماً من الجميع، فيما كانت بيئة العداء له تسير على نحْو عكسي، أي ليس من الناس إلى حاضنته في «فتح» والسلطة. في هذه الأخيرة، ضيّق الخناق على كلّ مَن انتقده، واستحدث لأوّل مرّة سُنّة «الطرد من أمّ الجماهير» في حق كلّ مَن خالفه، أو أيّد أيّاً مِن مُخالفيه، فضلاً عن أنه دمَج بين صلاحيّاته في السلطة والتنظيم، وأضحى قطْع الرواتب التي يتلقّاها المخالفون من السلطة مقابل عملهم الوظيفي، سيفاً بيده يقتصّ من شعبيّته أكثر.
أخيراً، قضى أبو عمار شهيداً كما كان يردّد: «ع القدس رايحين شهداء بالملايين»، محاصَراً ومحارَباً من العرب والغرب والإسرائيليين على حدٍّ سواء. رحَل بعد أنْ أدرك، صادقاً مع نفسه، أن برنامج المفاوضات لم يكن سوى غطاء لتوسّع المشروع الاستيطاني، فغدا بعد أنْ قلَب الطاولة في وجه الجميع، وأعطى الإذن بعسكرة الانتفاضة، القائد العسكري الذي لم يُسقط «السلاح من يده»، وتلك لوحدها أعادتْه إلى وجدان الناس، مبرَّءاً من كلّ «خطيئة وطنية»، وطنياً فلسطينياً كـ«يوم ولدتْه أمه».