أثار الاجتماع الأخير في غازي عنتاب بين مسؤولين أمنيين أتراك وقادة «الجيش السوري الحر»، الكثير من الجدل في تركيا، حيث ذكرت صحيفة «تركيا» الموالية لحزب «العدالة والتنمية»، أن الاجتماع تناول بشكل رئيس مسألة مستقبل المعارضة العسكرية السورية وتنظيم عملها، وتَقرّر في خلاله اتّخاذ الإجراءات المناسبة لتحويل «الجيش الحر» إلى جيش نظامي، وتشكيل مؤسّسات شرطة واستخبارات تابعة له، فضلاً عن وضْع خطوط واضحة للفصل بين الأجهزة العسكرية والأجهزة المدنية، بحيث تَبْقى الأولى محصورة في مقارّها. وتُعتبر هذه محاولة تركية متجدّدة لتوحيد الفصائل، بعد أكثر من محاولة فاشلة في السنوات الأخيرة، لكنها تبدو الأكثر جدّية إثر تَوسّع «هيئة تحرير الشام»، وسيطرتها على مناطق كانت تابعة لـ«الجيش الوطني»، الطبعة الأخيرة من «الجيش الحر».ولاقى هذا المسعى استهجان العديد من الأوساط الإعلامية التركية، التي رأت فيه مؤشّراً سلبياً بخصوص التوجّهات التركية الرسمية تجاه سوريا، ينضمّ إلى مؤشّرات أخرى، من بينها تأجيل بعض السياسيين الأتراك، مِن مِثل دوغو بيرينتشيك رئيس حزب «وطن» الصغير الحجم، زيارتهم التي كانت مقرّرة إلى دمشق للقاء الرئيس بشار الأسد قبل أكثر من شهر ونصف شهر، تحت ما قيل إنها ضغوط من إردوغان. وعلى خلفية ذلك، تنسب صحيفة «آيدنليك»، التابعة لبيرينتشيك، إلى وزراء في حكومة إردوغان نصيحة أميركية للأخير بعدم المضيّ في خطوات التطبيع مع الأسد. وتلفت الصحيفة إلى أن «الحكومة مهووسة بتعزيز العلاقات مع إسرائيل بدلاً من المصالحة مع دمشق التي لا تثير ارتياح تل أبيب»، مضيفة أن الرئيس التركي «لا يملك أيّ خطط واضحة ومحدَّدة لتحسين العلاقات مع دمشق، على الأقلّ قبل الانتخابات الرئاسية التركية في حزيران 2023»، وهذا من الأسباب التي تجعل دمشق تقارب بحذر شديد التصريحات التركية بشأن التطبيع معها. وترى «آيدنليك» أنه «في حال أوقفت تركيا محاولاتها تحسين العلاقات مع سوريا، فسيمنح هذا حلف شمال الأطلسي ورقة في الصراع مع روسيا وخصومه في المنطقة»، معتبرةً أنه «إذا كانت تركيا جادّة في الانفتاح على الشرق وعلى سوريا، فعليها القيام بخطوات جريئة وأكثر حزماً»، واصفةً سياسة إردوغان الحالية تجاه روسيا وأوكرانيا بأنها «رقص على الحبال»، وليست حياداً.
لاقى المسعى التركي لتوحيد الفصائل استهجان العديد من الأوساط الإعلامية التركية


من جهته، يتساءل محمد علي غولر، في صحيفة «جمهورييات»، عمّا إذا كان القرار بتحويل «الجيش الوطني إلى جيش نظامي جدّياً، أم أنه مجرّد ألاعيب يقوم بها إردوغان مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية». ويشير غولر إلى أن «السلطة في تركيا تمارس سياسات مزدوجة ومتناقضة؛ فتارة تقول إنها سوف تموّل بقاء اللاجئين السوريين في أراضيها، وتارة تقول إنها سوف ترحّلهم ولكن ليس إلى أمكنة إقامتهم الأصلية بل إلى مدن من الطوب تقيمها لهم ليعيشوا فيها، وبالتالي فهي تستخدمهم ورقة تبعاً لمصالحها». ويَلفت الكاتب إلى أن الحديث عن توحيد الفصائل يأتي في وقت كان يُفترض فيه بأنقرة أن «تَحلّ الجيش الحر، وتبدأ تطبيع العلاقات مع دمشق، لأن إنشاء جيش نظامي مستقلّ يعني إقامة دولة مستقلّة، ولا يمكن بإنشاء هذا الجيش تطبيع العلاقات مع سوريا»، مستنتِجاً أن هذا القرار «هدفه تخريب احتمال التطبيع مع سوريا، وهو تتويج لحلم 11 عاماً بإنشاء تركيا جيشاً ثانياً في المناطق التي تسيطر عليها». ويتساءل غولر: «لماذا الآن العمل على تحويل الجيش السوري الحر إلى جيش نظامي؟»، ليجيب بأن «إردوغان صرّح في 7 كانون الثاني 2019 لصحيفة "نيويورك تايمز"، بأنه هو الذي سيحلّ مشكلة سوريا، ووجّه آنذاك نداءً إلى الإدارة الأميركية يقول فيه: "سوف تعمل تركيا على إنشاء مجالس محلّية في الأراضي السورية التي تحت سيطرتها، وسوف تَنشأ في المناطق التي يشكّل فيها الأكراد غالبية، مجالس مشابهة، وسيكون المسؤولون الأتراك ذوو التجربة، بمثابة مستشارين لهذه المجالس في الشأن البلدي والتعليم والصحة والخدمات العاجلة». ويخلص غولر إلى أن «إردوغان لم يتخلّ عن أوهامه في إنشاء بُنية سفلية تحت مظلّة النظام العالمي الذي تقوده أميركا، يكون فيه المنتدَب للأخيرة في سوريا»، معتبراً أن «تطبيع العلاقات مع دمشق، هو مِثل أيّ مسألة أخرى، قضية تتعلّق بتغيير النظام (التركي) قبل كلّ شيء».
وإذا ما صحّت تلك التحليلات عن تعثّر مسار التطبيع التركي - السوري، وأضيف إليها تَعرقل عملية التطبيع مع مصر بسبب استمرار الخلاف حول مسألة «الإخوان المسلمين» والوضع في ليبيا، ومع غياب أيّ علامات إضافية «إيجابية» على مستوى العلاقات مع الإمارات والسعودية، وفي ظلّ استمرار التوتّر مع اليونان وقبرص اليونانية، لا يبقى من هدف للاستدارة التركية سوى إسرائيل، والأخيرة غير كافية بذاتها لإخراج تركيا من وضع «العزلة الثمينة» الذي كانت فيه قبل سنة ونيّف من الآن.