يرى مراقبون يمنيون أن استهداف ميناء الضبة النفطي على بحر العرب والقريب من المكلا، مركز محافظة حضرموت، شرق اليمن، الجمعة، بمسيّرتَين، له أبعاد أخرى غير تلك التي ركّزت عليها وسائل الإعلام، وهي أن صنعاء تعمل على فرض معادلة «النفط مقابل الرواتب». ولعلّ الأهمّ في العملية التذكيرية هذه، وفق هؤلاء، وقوعها على شواطئ بحر العرب، والدقّة النقطوية في ميناء الضبة والتي تعمّدت القوّة الجوية اليمنية تنفيذها بالقرب من السفينة اليونانية، من دون إصابتها أو إصابة أحد من طاقمها بأذى، والحرص على عدم الإضرار بالبنية التحتية للميناء وتجنّب إصابة خزّانات النفط القريبة منه، والمقدّرة سعتها بمئات آلاف براميل النفط الخام. ويعني ما تقدَّم، أن القدرات الاستطلاعية والاستعلامية لدى الجانب اليمني تستطيع تشخيص الأهداف المعادية وتدميرها في عمق بحر العرب، وليس على الشاطئ فحسب؛ وهو ما أكده رئيس «المجلس الأعلى» في صنعاء، مهدي المشاط، في استعراض «وعد الآخرة» في الحديدة، بقوله إن القوات اليمنية «قادرة على ضرب أيّ نقطة في البحر، من أيّ مكان في اليمن، وليس من السواحل فقط». وعليه، لا تتوقّف عملية الضبة على القوى المحلية اليمنية المعادية أو دول «التحالف»، ولكنها أيضاً إشارة واضحة إلى أن إمكانيات صنعاء باتت تشمل تهديد الملاحة الدولية في الجانب الشرقي للمياه الإقليمية، بعدما كان يُعتقد أن قدراتها البحرية مقتصرة على الجانب الغربي للبلاد، أي البحر الأحمر.لطالما شكل باب المندب، وكذلك التنافس على شواطئ اليمن وجزره، أبرز أسباب الصراع الذي عاشته المنطقة عبر التاريخ. ويمثّل اليمن، اليوم، أيضاً واحداً من أهمّ عوامل النزاع، ولا سيما بالنظر إلى حجم القوات الدولية التي تمّ الدفع بها إلى المنطقة بحجّة حماية خط الملاحة الدولي في هذا الممرّ، ومنطقة عمليات البحر الأحمر وبحر العرب. وتأتي عملية الضبة في هذا الإطار لتحجز لليمن دوراً - ولو نسبيّاً - في مياهه الإقليمية في بحر العرب، يضاف إلى مساحة عملياته العسكرية في مضيق باب المندب والبحر الأحمر. ويُصنّف اليمن على أنه دولة بحرية، إذ لديه شريط ساحليّ بطول 2200 كيلومتر يحيط به من الغرب والجنوب الشرقي، وعلى امتداده موانئ مهمّة وعشرات المدن الساحلية والجزر الحيوية في بحرَي العرب والأحمر. وهو موقعٌ متميّز أضفى عليه بُعداً استراتيجياً. فبالإضافة إلى الوجود الأميركي الدائم، يُسجّل حضور صيني متجدّد بعد غياب طويل عن المنطقة، حيث تسعى بكين إلى إيجاد موطئ قدم لحماية مصالحها، وتأمين تجارتها من خلال حماية الممرّات المائية.
وعلى رغم الحديث عن التراجع الأميركي في المنطقة، إلّا أن بحرية الولايات المتحدة لا تنفكّ تصل تباعاً لتأخذ تموضعات استراتيجية، منها ما هو متصل بزعم حماية الحلفاء الخليجيين وإسرائيل، ومنها ما هو متّصل بصراعها مع الجانبَين الروسي والصيني. على أن ضراوة الصراع على تلك المنطقة الحيوية من العالم لم تظهر اليوم، بل قبل سنوات عديدة حين انكشف التسلّل الصيني في المنطقة. وعلى رغم تجنّب المواجهة في السابق، إلّا أن البحرَين الأحمر والعرب باتا حلبة صراع الأطراف الدولية والإقليمية. ويُذكر أن للصين قاعدة بحرية في جيبوتي، منذ عام 2017، مقابل باب المندب من الجهة الأفريقية، وتتّسع مهمّتها على كامل منطقة القرن الأفريقي وهي الأولى لها خارج أراضيها. ويبدو أن المناورات البحرية المشتركة لكلٍّ من الصين وروسيا وإيران في بحر العرب والمحيط الهندي أصبحت برنامجاً سنوياً افتتحت به الدول الثلاث مساراً ثابتاً منذ المناورة الأولى التي جرت أواخر عام 2019.
وجاءت عملية الضبة على شاطئ بحر العرب على إثر حادثَين متزامنَين: الأوّل، ما كشفه مصدر في وزارة الدفاع الأميركية لتلفزيون «العربية» السعودي عن وجود غواصة نووية أميركية استراتيجية من طراز «أوهايو» قادرة على إطلاق صواريخ نووية عابرة للقارات في بحرب العرب. وحرص الإعلان على تضمين الحدث بُعداً استعراضياً بزعم إيصال رسالة إلى الجمهورية الإسلامية. وذكر المصدر أن اسم الغواصة «ويست فرجينيا»، وأنها مزوّدة بـ 20 صاروخاً باليستيّاً متعدّد الرؤوس. وتجدر الإشارة إلى أنها من المرّات النادرة التي تعلن فيها القيادة العسكرية الأميركية عن أماكن وجود غواصاتها النووية، وخصوصاً تلك التي تحمل رؤوساً باليستية. وأوضحت مصادر أن الكشف عن وجود الغواصة يأتي بعد تأزّم العلاقات الأميركية - السعودية، على خلفية تخفيض «أوبك بلس» إنتاج النفط بواقع مليونَي برميل يومياً، واتهام واشنطن الرياض بالانحياز إلى الجانب الروسي في الحرب الأوكرانية. ويُفهم من بيان «البنتاغون» أن رسالة وجود الغواصة في بحر العرب ليست مقتصرة على إيران، لكنّها في المقام الأوّل لتأكيد حضور أميركا في مركز الشرق الأوسط، حيث تسعى روسيا إلى نسْج تحالفات جديدة مع مركز القرار الخليجي وعواصم النفط. وتكشف الرسالة الأميركية أن أهدافها إعادة التحالف القوي مع دول الخليج وتنشيط معادلة «النفط مقابل الحماية» الراسخة منذ خمسة عقود. والثاني: إعلان البحرية الإيرانية، يوم الجمعة، في بيان، أنها أوقفت «مسيّرتَين مائيتَين أميركيتَين عرّضتا الملاحة للخطر في أعالي المحيطات والبحر الأحمر»، مضيفةً إنّ توقيف المسيّرتين جاء خلال «مهمّة البحرية الإيرانية لإرساء الأمن في أعالي البحار». وكان قائد الأسطول الأميركي الخامس ومقره في البحرين قد كشف أن واشنطن ستزيد من تركيزها على ضمان الأمن البحري، واستقرار الملاحة في البحر الأحمر، عبر باب المندب وخليج عدن. وقال الفريق بحري، تشارلز برادفورد كوبر، في مقابلة صحافية الشهر الماضي، إن قواته تستعدّ لنشر أحدث أسطول طائرات من دون طيار لضمان الأمن البحري الإقليمي في المنطقة، موضحاً أن هدف قواته «هو تطوير وتنمية ما يمكن تسميته بأحدث أسطول طائرات من دون طيار في العالم عبر نشر 100 من المنصّات المتطوّرة غير المأهولة، بحلول صيف 2023. هذا فضلاً عن فرق (150 - 151 - 152 - 153) بحرية أميركية تعمل على مكافحة تهريب الأسلحة في بحرَي العرب والأحمر».
رسالة الغواصة تتضمّن رداً أميركياً على سعي روسيا إلى نسج تحالفات مع مركز القرار الخليجي


وقد استخدمت إسرائيل المياه الدولية في البحرَين الأحمر والعرب لاستهداف السفن التجارية الإيرانية، ونفذت العديد من الاعتداءات، إلا أنه منذ اعتلاء إبراهيم رئيسي سدّة الرئاسة، تغيّرت معادلة الصراع البحري مع الكيان الصهيوني لمصلحة طهران. وقد أعربت تل أبيب أكثر من مرّة عن قلقها من الوجود الإيراني في البحر الأحمر.
يذكر أن وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، ادّعى منتصف العام الجاري بأن إيران أرسلت خلال الأشهر الأخيرة أربع سفن عسكرية إلى البحر الأحمر، حيث زعم أنها عزّزت حضورها العسكري ليصبح الأوسع منذ عقد. وكان قائد القوة البحرية في الجيش الإيراني، الأميرال شهرام إيراني، قد قال نهاية آب الماضي: «على رغم تحرُّكات الأعداء، وخاصة الكيان الصهيوني، في البحر الأحمر، فإن وجود رجالنا على مدمّرات القوّة البحرية الاستراتيجية للجيش في المياه الدولية قد سلب الجرأة من العدو على القيام بتحرّكات عدائية، وظلّت خطوط الملاحة البحرية للجمهورية الإسلامية مفتوحة على الدوام. ومن خلال التعرف إلى السفن والتحرّك في البحار، أثبت هؤلاء الرجال أنه سيكون لهم وجود قوي أينما تطلّب الأمر».