حلّ البرْد أخيراً على القُدسِ وأطرافها. تتكوّر البيوت في البلدات والمخيّمات أكواماً إسمنتية بعضها فوق بعض، مُطلّةً من وراء الجدار على المستعمرات الإسرائيلية الحديثة. داخل تلك الأحياء المهمَلة والمهمَّشة، تبدو العشوائيات ليلاً وكأنّها جسد يرتجف في درجة حرارة «صفر»، فيما مخيّم شعفاط يَظهر أقرب إلى كتلة مكثّفة من هذا كلّه: نقطة «صِفرية»، بلا مكانة قانونية، كونه يقع ضمن حدود بلدية القدس، التي لا سلطة لها - مع ذلك - عليه، لوقوعه وراء جدار الفصل العنصري. تُحاصِر المخيّم بوّابةٌ، مفتاح الدخول والخروج عبْرها هو التعريف القانوني للفلسطينيين. «شعفاط»، المعزول عن طرفَي الاحتلال، يكاد يكون «دفيئة» لفوضى من شتّى الأنواع، في مقدّمتها انتشار السلاح والمخدّرات. هو لا ضابط له ولا قيادة، ولا لون أو هويّة سياسية محدَّدة، مِثله مِثل بقيّة المخيمات الفلسطينية، حيث تُكافح الفصائل لضبط الأوضاع والسيطرة عليها.
غلاف جريدة «الصراط»، العدد 1014، 28/8/1938

لكنّ هذه المكانة الصِّفريّة تبدّلت منذ يوم السبت، الثامن من الشهر الحالي، عندما وصل ابن المخيّم، الفدائيّ عديّ التميمي (22 عاماً)، ببنطال «جينز» وسترة بكمّين طويلين، مستقلّاً سيّارة أجرة. اجتاز التفتيش الأمني عند الحاجز، ثمّ نزل بهدوء من السيّارة، ملتفّاً عليها، حاملاً سلاحه قبل إطلاقه النار على مجموعة من الجنود الإسرائيليين من «مسافة صفر»، ليُسقط مجنّدة قتيلة، ويصيب اثنين آخرين بجروح بين حرجة ومتوسّطة. لم تمضِ ثوانٍ قليلة على إتمامه عمليّته التي أطلق خلالها ثماني رصاصات، حتى فرّ إلى جهةٍ، تقدّر أجهزة الاحتلال أنها المخيّم نفسه، أو السجن الكبير الذي يمتدّ على مساحة كيلومترَين مربّعَين، محاصِراً أكثر من 200 ألف فلسطيني. جُرأة عدي وإقدامه، مقابل الجُبن والعجز اللذَين أبداهما جنود العدو، حاولت سلطات الأخير التغطية عليه بتفعيل سياسة العقاب الجماعي، مستهدِفةً خصوصاً عائلة عديّ، سواء النواة أو الموسّعة، قالِبةً يومياتها رأساً على عقب، من خلال الاقتحامات المتتالية لبيوتها، واعتقال أفرادها وتهديدهم بهدم بيوتهم والفرن الذي يملكونه. لكن على رغم مرور أكثر من عشرة أيام منذ الحادثة، لم يفلح العدو في الوصول إلى التميمي، الذي باتت مطاردته حالة مكثّفة من الحصار المعاكس، بعدما أعلن المخيّم العصيان المدني والإضراب على مدار أيّام خَلت، جاعلاً من «لا-مكانيّته» مادّة لإرهاق الاحتلال، سرعان ما وصلت شرارتها إلى بقيّة بلدات القدس التي خاضت هي الأخرى اشتباكات ومواجهات ليلية.
البيئة الفلسطينية لا تنفكّ تبتدع أساليبَ وطُرُقاً ثورية


في خضمّ هذا كلّه، ظلّت أجهزة أمن الاحتلال وأعوانه ووسائله التكنولوجية المتطوّرة، تلهث بحثاً عن شاب حليق الرأس، تقدّر أنه لا يزال متخفّياً في المخيّم. أمّا المُطارَد نفسه، الذي من المفترض أن يتجنّب بيئته (خوفاً عليها لا منها)، فأصبح فجأة هو البيئة ذاتها؛ حيث بدأ أقرانه من شبّان «شعفاط» وأطفاله يحلقون شعور رؤوسهم «على الصفر»، مُعلنين أنهم جميعاً نُسخ «طبق الأصل» من عديّ، بهدف تشويش عمليات البحث عنه، وإعاقة وصول العدو إليه. وفي سبيل ذلك أيضاً، ابتدعوا أسلوباً آخر لخلْق بلبلة في عمليات البحث الإلكترونية المُوازية للبحث الميداني. وهكذا، بات عديّ هو المتّصل ومتلقّي الاتصال، المتحدّث والمجيب، المرسِل والمستقبِل. ومن هنا، قد لا يكون مبالَغاً فيه القول إن البيئة الحاضنة للمقاومة نجحت هذه المرّة في إيجاد قيمة للصفر، وبرعت في إخراج نظرية التشبّع الكيميائي من المختبر وإسقاطها على الحالة الفلسطينية؛ ففي الكيمياء الفيزيائية، يُعرَّف التشبّع بأنه «النقطة التي لا يصبح محلول أيّ مادّة فيها قادراً على إذابة المزيد منها». في الحالة الفلسطينية أذاب الشبّان «الرأس الأصلع» إلى حدّ «التشبّع».
على أن هذه ليست المرّة الأولى التي تترسّب فيها «المواد» من «المختبر» إلى الخارج. ففي 28 آب 1938، وبينما كانت مدينة يافا تعيش حصاراً كحصار مخيّم شعفاط اليوم، «قامت حركة تطهير نهائية للرؤوس، واختفى الطربوش، وفازت الفكرة العربية الخالصة على دولة الطرابيش الماضية» (من افتتاحية جريدة الصراط، العدد 1014، 28/8/1938). في ذلك الوقت، حين كان الانتداب البريطاني يلاحق الثوّار الذين تميّزوا باعتمارهم الحطّة (الكوفية)، شاعت بين الفلسطينيين في يافا ابتداءً، ظاهرة إزالة الطربوش عن الرأس، واستبدال الكوفيّة به، بهدف تضليل سلطات الانتداب، ثمّ سرعان ما انتشرت هذه الظاهرة في عموم فلسطين كالنار في الهشيم. وتُضاف إلى ما تَقدّم، نماذج كثيرة، لعلّ أبرزها عصيان بيت ساحور عامَي 1988و1989، والذي قرّر خلاله 1500 فلسطيني رمْي بطاقات هويّاتهم لأن المقاومين المطارَدين آنذاك كانوا بِلا بطاقات هويّة، وبهذا ضلّلوا عمليات البحث الإسرائيلية. أمّا الآن، فإن حلاقة الرأس في مخيّم شعفاط، تحوّلت من فعل طبيعي، إلى فعلٍ مقاوم أثار غضب العدو بوصْفه «عملاً استفزازياً ومشوِّشاً لعمليات البحث»، إلى حدٍّ خرجت معه دعوات إسرائيلية إلى اعتقال حليقي الرؤوس بصفتهم «منفّذي عمليات محتمَلين»، يتحدّون «الزنّانة» وكاميرات التعرّف إلى الوجوه والبحث الميداني (الجسدي).
في المحصّلة، فإن البيئة الفلسطينية لا تنفكّ تبتدع أساليب وطُرُقاً ثورية، لتنجح أخيراً في نقْل الصفر من مكانة ساكنة ثابتة إلى مكانة مؤثّرة ومتحرّكة، مرّة من طريق إطلاق النار من «مسافة صفر»، وأخرى عبر حلق الرأس «على الصفر»، إلى أن تتمكّن ذات يوم من تحقيق حلمها في إعادة الاحتلال إلى «النقطة صفر».