الأم، خزان الذكريات الذي لا ينضب، حملت حكايتنا، فأورثتنا الرواية، سلاحها، سيل الأمومة المتدفق في أرواحنا، يمدّنا بمعنى الحياة، رغم انكسارات الزمن. لا تروض، هي صورة الأرض المستلبة، وهي الفرح المؤجل إلى حين، وكلما نسينا أو تناسينا، محاولين الانخراط في الحياة الطبيعية، تحضر على عجل، تعيد تنشيط الذاكرة، وتربيها على زمنها الأول، زمن البلاد قبل أن يأتينا الغزاة، قادمين من البحر غرباً.أم الشهداء هي أم فلسطين، حملت وربت وتحملت الألم كله، وزادت فوق عاتقها، مهمات تفوق طاقتها، الفقد والخسارة والذكريات والأمنيات، تحاول التعويض، فتتخذ من الشباب (كل شباب فلسطين) أولاداً لها، تتذكر فيهم شهيدها، ويتخذونها أماً لهم. الشهادة أعلى مراتب التضحية، وفي الحالة الفلسطينية التي طال الكفاح من أجلها، وزاد فيها سيل الدم، وأعراس الشهادة، وزادت فيها العائلات الثكلى، كما زاد فيها لؤم وخسة العدو الذي يبتكر أساليب جديدة من القهر الذي لا حدود له، حيث ما زال حتى هذه اللحظة يحتجز جثامين عشرات الشهداء لديه، ليتلذذ في تعذيب أمهات وآباء وعائلات بأكملها. لم يسبقه إلى هذا الفعل، كمستعمِر، خلال قرن تقريباً، الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

في عز الانتفاضة الأولى، استوقفني خبر، لم أستطع تصديقه عند سماعه في نشرة الصباح الإخبارية التي تبثها إذاعة الاحتلال، أعلن المذيع فيه، أن سلطات الاحتلال، أخرجت جثمان الشهيدة دلال المغربي، بطلة عملية الإنزال البحري على شواطئ يافا، قبل عشرة سنوات في حينها، وواصل المذيع قراءة الخبر، بالقول إنها محكومة 10 سنوات في ثلاجة الموتى، عقوبة لها عما فعلت، تصوروا معي، احتلال يحتجز جثماناً لعشر سنوات، ثم يدّعي البعض من بني جلدتنا أن هذا الاحتلال عاقل، ويمكن عقد صلح معه! تابعت الموضوع وقتها، رحت أفتش عن أخبار تتعلق بجرائم الاحتلال في احتجاز الجثامين، حتى عرفت أنه اقترف جرماً أكبر من هذا كله، فبعد أن قام باحتجاز جثمان شهيد من الخليل، لأكثر من عشرين سنة، كان يسمح لعائلته بزيارته في ثلاجة الموتى، كانت الأم تحضر في موعد الزيارة، تلقي نظرة الوداع عليه لمدة عشرين عاماً، وهي تودع ابنها، في صورة متكررة، ثم يخرج من بيننا من يسمي أمهات الشهداء «شاذات»، يسمي ولا يلقى العقاب اللازم على فعله، وكيف يلقاه وهو ابن منظومة فقدت رشدها، وباعت نفسها، وأسأل نفسي، هل فعلاً نحن من نفس الوعاء؟

أم الشهيد أمنا
في صيف عام 1989 ارتقى الشهيد نعمان، في مواجهة داخل قريتي، بعد أن أصابه قناصة الاحتلال برصاص الدمدم في رأسه، ولاحقوا جثمانه ليختطفوه من سيارة الإسعاف، أسبوع كامل من المساومة، مساومة العائلة، أرادوا من والده أن يكتب تعهداً، أن ابنه قتل على يد أقرانه في عراك، وأن الاحتلال لا دخل له في الحادثة، ومع كل يوم تأخير كان نعمان يتحول إلى أيقونة، لأجل ذلك خرجت كل الأمهات في ليلة الدفن، في حفل وداعه، لم أستطع تمييز والدته التي أنجبته، من سيل الأمهات في وداعه ليلة الدفن، بكينه جميعهن، دمعاً وورداً.
كان يأمل الاحتلال، في أن يوقف سيل المنتفضين الهادر، من خلال ما جرب أن يفعله بعائلة الشهيد، لكنه فوجئ من رد الفعل، فبدل أن تمنع الأمهات أولادها من المشاركة في فعاليات الانتفاضة، خرجن معهم في أول تظاهرة، إسناداً ما بعده إسناد. رسالة الأمهات كانت الدرس البليغ لنا وللاحتلال، لنا، بأن التضحية تعني الاستمرار على درب نعمان، وللاحتلال، بأن الفقد لا يكسر عزيمتنا، ومع هذا فإن الاحتلال الغبي، واصل فعله، وكرر فعلته في أكثر من موقع في فلسطين. فهو لا يملك غير تلك الوسائل، ولو كان يملك غيرها لفعل ما هو أسوأ من ذلك بكثير، وعلى ما يبدو أن فعلهم متأت من دراسات علمية إنسانية تتعلق ببنية العائلة الفلسطينية وسبل التأثير عليها، وفي امتحان التجريب عليها سقطت كل علومه، وأدرك أن الأم الفلسطينية، تمتلك أعلى درجات التأثير في الوعي الجمعي الفلسطيني، ولها فعلها وقدرتها وقرارها، ولها أيضاً حلولها، كما رأينا بالأمس القريب أم الشهيد إبراهيم النابلسي وهي ترفع نعش ابنها. رأينا ذلك في آخر الكلمات التي نطق بها إبراهيم قبل لحظات من استشهاده، عندما أعلن الحب لأمه، فهي التي تمثل الوطن فلسطين، لقد تماهت الأم الفلسطينية مع الوطن، ولهذا نجحت وتنجح في علمها وتعليمنا.
لها فعلها وقدرتها وقرارها، ولها أيضاً حلولها، كما رأينا بالأمس القريب أم الشهيد إبراهيم النابلسي


يحاسبون الضحية على رد فعلها
في الانتفاضة الثانية، كان إعلام الاحتلال والإعلام الغربي وبعض أبواقهم في ديارنا، يصبون اهتمامهم على وصف الأم الفلسطينية التي ترسل أولادها للمعركة، بأنها أم غير عاقلة، فاقدة للحس الإنساني، ولديها أحاسيس متبلدة، ولا تعرف معنى الأمومة، كأنها هي القاتل، وليست الضحية. هذا الإعلام مهووس بالدفاع عن جرائم الاحتلال، ويبحث عن أي مَنفذ ليلقي من خلاله المسؤولية على عاتق الضحية، ليبري القاتل من فعلته. في حالتنا الفلسطينية تستطيع أن تقرأ جنون الغرب وفنونه في التحريف، الاحتلال يقتل، والماكينة الإعلامية الغربية تغطي فعلته.
أذكر أنه في أحد الأيام، التقيت بمجموعة من الطلبة اليابانيين في دمشق، وأذكر أحد أهم الأسئلة التي طرحت علي، وكان يتعلق بالأم الفلسطينية، لماذا لا تمنع أولادها من المشاركة في المواجهة؟ لماذا تحتفل بمقتل ولدها؟ لكن السؤال الفعلي الذي لم يطرحوه، وطرحته عليهم بالمقابل، كان، من قتل ولدها؟ إصراري على السؤال تركهم في حيرة من أمرهم، واشترطت عليهم الإجابة عليه، قبل أن أجيبهم عن أسئلتهم، وبعض لحظات من المراوغة أجابوا، بأنه الاحتلال. سألتهم سؤالاً آخر، عن شعب احتلت أرضه ولم يقم بالمقاومة، وعرجت على التجربة اليابانية، وأخبرتهم بأننا استفدنا منها وتعلمنا درساً، وأقصد تجربة الكاميكاز في الحرب العالمية الثانية، شعرت وكأنهم تعرضوا لمسح ذاكرة، وأخبروني أن وسائل إعلامهم تغطي رواية الاحتلال فقط، ولا تتطرق مطلقاً للرواية الفلسطينية.

لقد فعلها دايتون
توصل الأميركان إلى خلاصات عامة من تجربة الانتفاضة الثانية، فعملوا على خطين متوازيين، الأول أمني وعسكري، والثاني مجتمعي وتنموي، في الأول أشرفوا بشكل مباشر على إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والهيكلة لا تعني فقط المسائل التقنية التي تتعلق بالتنظيم والتدريب؛ بل طاولت بناء عقيدة جديدة، تقوم على تعريف العدو وتحديده، وفي حالتنا الفلسطينية، العدو هو الشعب، وبالتحديد المقاومة. وعلى المقلب المجتمعي، دفعت بكل المؤسسات المدنية الفلسطينية التي تمولها، إلى الإقرار الخطي بنبذ «الإرهاب» أي المقاومة، والتعهد بعدم تقديم العون لعائلات الشهداء، وفرض شروط تفصيلية تتعلق بأمهات الشهداء، بعدم تقديم أي شكل من أشكال المساندة، فتحولت الإدارة الأميركية لتلقي علينا دروساً دورية دعوية في الوعي والإرشاد، وعلى رأس تلك الدروس نبذ ثقافة المقاومة وطردها من ثقافتنا، كما في تصريحات المحافظ في نابلس، والتي لم تكن زلة لسان بل خياراً أعد له منذ سنوات على يد الجنرال الأميركي دايتون.
بعد كل تلك السنوات، أعادت الأم الفلسطينية، وأم الشهيد، الحقيقة إلى نصابها، لتنتصر حارسة نارنا الدائمة عليهم جميعاً، بعد أن أثبتت صحة فعلها وقولها.