ولد مناحيم وولفوفيتش بيغن عام 1913 في بريست ليتوفسك في روسيا (اليوم ضمن دولة بيلاروسيا)، ونشأ في بولندا التي كانت تحتضن أكبر تجمع لليهود في العالم، حيث كانت الحركة الصهيونية نشطة جداً في صفوفهم وتروّج لفكرة «دولة اليهود» في «أرض الميعاد». لكن بيغن الشاب لم ينخرط في صفوف التيار الصهيوني الرئيسي، بل اختار الانضمام إلى أقصى اليمين الصهيوني (الذي سيُعرف لاحقاً باسم «الصهيونية التصحيحية») الذي أسسه وتزعمه يهودي روسي آخر هو فلاديمير جابوتنسكي. التحق بيغن بعمر 16 سنة، بصفوف حركة «بيتار» الشبابية، شبه العسكرية التي تأسست على نمط الفاشية الأوروبية. وفي عام 1932 أصبح أحد قيادات الحركة، فتولى مسؤولية قسم التنظيم. وعلى الرغم من أن بيغن تخرج من كلية الحقوق في جامعة وارسو عام 1935، فإنه لم يمارس مهنة المحاماة، وبقي متفرغاً بشكل كلي لشؤون النشاط الصهيوني.بعد توقيع الاتحاد السوفياتي معاهدة الصداقة مع ألمانيا النازية عام 1939، قام جهاز الأمن السوفياتي باعتقال جميع القادة والنشطاء الصهاينة في بولندا، على خلفية اعتبارهم موالين أو عملاء لبريطانيا. وكان من بين المعتقلين عام 1940 مناحيم بيغن، فأرسل إلى سجن في سيبيريا، حتى غزو هتلر للاتحاد السوفياتي عام 1941. ومع تحسن العلاقات البريطانية - السوفياتية، أطلق ستالين سراح المعتقلين البولنديين واليهود من السجون، وقامت بريطانيا برعاية تشكيل جيش «وطني» بولندي بقيادة الجنرال فلاديسلاف أنديرز، وكان ضمنه مناحيم بيغن. قررت بريطانيا الاستفادة من هذا الجيش البولندي -الذي كانت بلاده تحت الاحتلال الألماني- في معاركها المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط. وهكذا فإن الجنرال فلاديسلاف أنديرز ومعه 53 ألفاً من جنوده، بينهم 4300 جندي يهودي، ضمنهم بيغن. توجهوا لخدمة العمليات الحربية البريطانية في الشرق الأوسط.
رتبت بريطانيا الأمور مع ستالين، فتوجهت قوات أنديرز عبر الاتحاد السوفياتي إلى إيران، ثم العراق، ومنها إلى فلسطين، حيث استقرت هناك لأغراض إعادة التجمع والتدريب والتسليح، تمهيداً للتوجه إلى مصر وجبهة شمال أفريقيا للانضمام إلى الجيش البريطاني الذي كان يستعد لمواجهة زحف الجيوش الألمانية القادمة من إيطاليا وليبيا بقيادة المارشال رومل عام 1942.
وصل مناحيم بيغن، ضمن الجيش البولندي إلى فلسطين، وهو بعمر 29 سنة. وسرعان ما انشق عنه مع يهود آخرين (السيرة الرسمية المنشورة لحياة بيغن تقول إنه «تم تسريحه» من الجيش البولندي).
في فلسطين، لم يضيع بيغن وقتاً، فالتحق فوراً بصفوف منظمة «أرغون تسفاي ليؤومي» (إيتسل)، وهي المنظمة الإرهابية التي تمثّل تيار «الصهيونية التصحيحية» التابع لجابوتنسكي (الذي كان قد توفي قبل سنتين، عام 1940). تنظيم إيتسل اليميني المتطرف كان يتبنى رؤية لصهيونية أكثر عنفاً ودموية، ترفض أي «حل وسط» مع العرب في فلسطين. وبحسب عقيدة «أرغون» فإن فلسطين هي لليهود وحدهم، ولا مكان فيها للعرب، وعليهم أن يغادروا. وحتى الإنكليز وبريطانيا، كان لهم نصيبٌ كبير من عداوة أتباع جابوتنسكي. على الرغم من أن بريطانيا العظمى كانت الداعم الرئيسي للمشروع الصهيوني منذ بدايته، وأصدرت وعد بلفور عام 1917، إلا أن ذلك لم يكن كافياً بنظر «أرغون» وتلامذة جابوتنسكي.
لم يعجب المنظمة ولا مناحيم بيغن الذي تدرج في صفوفها، الأسلوب البراغماتي لإدارة شؤون الانتداب في فلسطين، وتعامل الإنكليز مع جميع أطراف الصراع. وربما أكثر ما أثار بيغن وجماعته، قرار الإنكليز فرض «كوتا» على أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين لأغراض التنظيم ولتهدئة الجانب العربي. في شباط 1944، دعت «إيتسل» بقيادة بيغن، إلى التمرد على إدارة الانتداب البريطاني في فلسطين، وأطلقت سلسلة من العمليات العسكرية، ذات الطبيعة الإرهابية، التي استمرت لغاية 1948. خلال هذه الفترة قاد بيغن عمليات التنظيم التي كان أبرزها تفجير فندق الملك داوود في القدس (1946)، الهجوم على سجن عكا (1947)، واغتيال الوسيط الدولي في فلسطين، الكونت برنادوت (السويدي الجنسية) عام 1948. دفعت تلك العمليات الإرهابية، السلطات البريطانية في فلسطين إلى إعلان مناحيم بيغن كإرهابي، ووضعت صورته في رأس قائمة «المطلوبين». لكن أكبر وأفظع جرائم بيغن، حصلت أثناء سير المواجهات العربية - الإسرائيلية في النكبة عام 1948، ففي نيسان 1948 اقتحم بيغن ومعه المئات من مسلحي منظمته «أرغون» قرية دير ياسين قرب القدس، لارتكاب المجزرة المشهورة، فقتلوا ما لا يقل عن 200 من سكان القرية، من الرجال والنساء والأطفال بوحشية بالغة، ونظموا احتفالاً بـ«النصر» في شوارع القدس التي طافوا فيها وهم يعرضون «الأسرى» من العرب، بعد أن حملوهم على ظهور المركبات. مناحيم بيغن بقي فخوراً بما قام به في دير ياسين، وإلى آخر عمره، لم يعتذر ولم يتراجع عن موقفه. في سيرته المعنونة بـ«الثورة» يقول بيغن إن جنوده الذين هاجموا دير ياسين «أصدروا إنذاراً» للعرب فيها، وأضاف: إن الذين تجاهلوا إنذارنا تحمّلوا العواقب!
بعد إعلان قيام إسرائيل وانتصارها في الحرب، ألقى بيغن سلاحه، ومعه رفاقه من تنظيمات «أرغون» و«ليهي» و«إيتسل» و«شتيرن» الإرهابية، وانضم إلى قوات «الهاغاناه» التابعة للصهيونية الرئيسية بزعامة بن غوريون، ليشكلوا معاً الجيش الإسرائيلي الرسمي بقيادةٍ موحدة. كما أسس بيغن حزباً سياسياً سمّاه «حيروت»، ليعبر من خلاله عن توجهات ومشاريع أقصى اليمين الصهيوني من تيار جابوتنسكي، وعن أفكاره التوسعية التي تطالب بتمدد دولة اليهود، لتشمل شرق الأردن وأجزاء من العراق وشمال الحجاز وصحراء سيناء. بقي مناحيم بيغن في المعارضة داخل الكنيست الإسرائيلي لمدة 29 سنة، تخللتها فترة قصيرة انضم فيها إلى «حكومة وحدة وطنية» أثناء التحضير لعدوان 1967 ضد الدول العربية.
عام 1977 انتصر مناحيم بيغن وتحالف مع «الليكود» في الانتخابات العامة في إسرائيل واستلم السلطة. تزامن ذلك مع الانقلاب في مصر، على سياسات جمال عبد الناصر، واندفاع السادات باتجاه أميركا وإسرائيل. فانطلقت مفاوضات كامب ديفيد، وخلالها، أظهر بيغن أقصى درجات التصلب والتطرف في المواقف والمطالب. أملى مناحيم بيغن شروطه على أنور السادات من أجل إعادة سيناء للسيادة المصرية. وكانت شروطاً تعجيزية، ومن شأنها أن تفسد أي اتفاق، حتى ولو كان الطرف المقابل لديه الحد الأدنى من احترام الذات أو التمسك بثوابت الكرامة الوطنية. وفي مقابل موافقة السادات فعلياً على التخلي عن فلسطين كلها، وعلى أن يبعد مصر عن كل ما يتعلق بمستقبل قضيتها، وأن يعزل مصر عن العرب، لم يعرض بيغن سوى «حكم ذاتي» للفلسطينيين، بلا سيادة ولا استقلال. وقد تشجع بيغن من تهافت السادات ولهفته لإبرام اتفاق، بأي صورة كانت، يمكّنه من القول لشعبه أنه أعاد لهم سيناء. وكانت النتيجة، «معاهدة سلام» لم تخسر فيها إسرائيل شيئاً حقيقياً سوى «إعادة» سيناء لمصر التي تكاد تكون مسألة شكلية، لا تزيد عن احتفالات لرفع العلم المصري. ونال مناحيم بيغن جائزة نوبل للسلام، بالشراكة مع أنور السادات، وتم تكريمه على مستوى دولي كـ«رجل سلام».
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية التي لم تكن إسرائيل تحلم بمثلها، كان بيغن يشعر بتأنيب ضمير! إذ كيف يعيد أرضاً صارت في حوزة إسرائيل إلى العرب؟! حتى لو كانت سيناء، التي ليست جزءاً من فلسطين التاريخية.
ساهم مناحيم بيغن في شبابه بفعالية في تأسيس «دولة إسرائيل» وتنفيذ الحلم الصهيوني، وكان هو شخصياً أحد منفذي مشروع تفريغ فلسطين من أهلها. وكان يعتبر أن كل شبر من الأرض سيطرت عليه إسرائيل ثمنه العرق والدم، والتخلي عنه أصعب على النفس من قلع الأظافر وفقء العيون! لذا قرر بيغن أنه بحاجة إلى التعويض حتى يرضي ضميره، وحتى يقول لنفسه، إنه أرجع أرضاً إلى العرب، لكن حصل على أرض أخرى مقابلها! في حزيران 1982، بعد خمسة أسابيع فقط من انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء، أطلق الوحش الصهيوني سُعارَهُ على لبنان. فأرسل جيشه الذي بات مطمئناً إلى هدوء جبهته الجنوبية لغزو لبنان، وللقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية هناك. وبالفعل لم يتوقف الوحش الصهيوني إلّا بعد أن أسالَ بحوراً من دماء العرب في لبنان وبعد أن احتل لبنان، واجتاح عاصمته ودمّره تدميراً. عند ذلك فقط ارتاحت نفس مناحيم بيغن وقرّت عينه. فقد حصل على «التعويض» المناسب مقابل «تنازله» عن سيناء. لكن الأمور في لبنان لم تسِر كما يشتهي بيغن. فبعد فترةٍ قصيرةٍ من الصدمة الناتجة من خروج منظمة التحرير من لبنان، بدأت تتبلور على الأرض مقاومة جديدة، لبنانية هذه المرة، أشدّ عزماً وإصراراً وأكثر التصاقاً بالناس، وتعبيراً عنهم، خصوصاً في الجنوب. تدريجاً تصاعدت عمليات المقاومة اللبنانية، وزادت معها خسائر الجيش الإسرائيلي. وشيئاً فشيئاً صار تساقط الجنود والأخبار عن أعداد القتلى في صفوفهم تتصدر نشرات الأنباء في الكيان الصهيوني. ومع كل جنديّ قتيل كانت تزداد هموم بيغن وأحزانه. إلى أن كانت الكارثة في تشرين الثاني 1982 عندما نجحت المقاومة اللبنانية في تفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في مدينة صور بالكامل، وكان هو المركز الرئيسي للجيش الإسرائيلي في لبنان، مما أدّى إلى مقتل حوالي 80 ضابطاً وجندياً دفعةً واحدة! كان تأثير تلك العملية كبيراً جداً على مناحيم بيغن. الصدمة كانت قاسية، وهو لم يكن يريد، ولا يتوقع هذا المصير لـ«أبنائه» الجنود. وظهر تأثير عملية صور واضحاً على بيغن الذي صارت طباعه أكثر حدّة، وأصبح تعامله مع عملائه وحلفائه من حزب الكتائب اللبنانية وحكومة أمين الجميل أشدّ جلافةً وصَلَفاً.
استمرت الأمور على المنوال ذاته خلال عام 1983، بل زادت سوءاً بالنسبة إلى بيغن الذي وجد نفسه عاجزاً عن وقف العمليات الفدائية المتصاعدة في جنوب لبنان، حتى مع البطش والتنكيل الذي يمارسه جيشه. وصارت قيادات الجيش الإسرائيلي تضغط على بيغن من أجل الانسحاب حفاظاً على أرواح الجنود. ووجد بيغن نفسه مرغماً على قبول انسحابات صغيرة وتدريجية من الأراضي اللبنانية باتجاه الجنوب، حتى وصلت نهر الأولي (شمال صيدا). كان تديّن بيغن الشديد وإيمانه بأن الله اختاره ليحرر «أرض إسرائيل» من الغزاة العرب، وكلّفه بالحفاظ على اليهود فيها، لكن مع فشله في ذلك، ازداد وضعه النفسي سوءاً، بشكل غير معهود في صفوف السياسيين المحترفين.
ومع حلول أيلول 1983، ومع اقتراب عدد قتلى جيشه في لبنان حاجز الألف، فقد بيغن اتزانه ودخل في حالة اكتئاب حادة جعلته يعتكف داخل بيته لمدة أسبوع كامل، توقف خلاله عن حضور أي اجتماع أو لقاء مع مسؤولين في الحكومة أو الجيش. لم يلتق بيغن في تلك الفترة سوى سكرتيره الشخصي دان ميريدور. تفاقمت حالة بيغن النفسية، وهو في تلك العزلة، فتوقف عن حلاقة ذقنه، وتناول الطعام! وانتهت فترة العزلة تلك، حينما أرسل بيغن سكرتيره إلى الرئيس الإسرائيلي حاييم هيرتسوغ، حاملاً رسالة إليه ليس فيها سوى العبارة التالية: «أقدم لكم استقالتي من رئاسة الحكومة». لم يذكر بيغن أسباب الاستقالة ولم يشرح شيئاً. فهم هيرتسوغ كل شيء ولم يطلب إيضاحات.