رام الله | لم تتأخّر ردّة الفعل الفلسطينية على الحصار المطبق الذي يفرضه جيش الاحتلال على مخيم شعفاط وبلدة عناتا قرب القدس المحتلّة، منذ 5 أيام، عقب العملية الفدائية التي استهدفت حاجز شعفاط مساء السبت، وأسفرت عن مقتل مجنّدة من جيش الاحتلال. وقد أعلن أهالي المخيم، مساء الثلاثاء، البدء بالعصيان المدني المفتوح حتى فكّ الحصار عنهم، بما يشمل تعطيل المدارس، ومنْع استعمال السيارات بعد الساعة العاشرة ليلاً إلّا للحالات الطارئة، وإغلاق المحالّ، وتنظيم الوقفات الاحتجاجية، وتعليق العمّال أعمالهم. وقوبل هذا التحرّك بإسناد من مختلف المدن والبلدات والمخيّمات في الضفة، التي أعلنت الإضراب الشامل، الذي تحوّل إلى مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال والمستوطنين، امتدّت من الشمال إلى الجنوب. ويعاني السكّان في مخيّم شعفاط وبلدة عناتا وضاحية السلام، والمقدَّر عددهم بـ 150 ألفاً، منذ السبت الماضي، حصاراً خانقاً يفرضه عليهم جنود العدو الذين يمنعون الدخول والخروج، ويقتحمون الأحياء بشكل متكرّر، وينفّذون مداهمات واسعة للمنازل وسط إطلاق الرصاص الحيّ والمطّاطي والغاز المسيّل للدموع والمياه العادمة. ويُعدّ ما شهدته الأراضي الفلسطينية من حالة عصيان وإضراب شامل أمس، تجربة أولى من حالة نضالية ثورية قد تُعمَّم وتتطوّر مع مرور الوقت، في ظلّ تصعيد الاحتلال سياسة الحصار المشدَّد على المدن والقرى والبلدات، ونصْب الحواجز العسكرية على مداخلها، وتحديداً على المناطق التي تشهد تنفيذ عمليات للمقاومة أو مواجهات، أو يَخرج منها مقاومون، وتحويلها إلى كانتونات معزولة، وفرْض عقاب جماعي على سكّانها في محاولة للضغط على الحاضنة الشعبية للمقاومة. وخيّمت أجواء الانتفاضة الثانية، وعملية «السور الواقي» التي شنّها جيش الاحتلال عام 2002، على الضفة الغربية، وتحديداً مدينتَي القدس، ونابلس التي تتعرّض هي الأخرى لحصار خانق، حيث أغلق جيش العدو مداخلها، وعزلها عن محيطها. كما أغلق مدخل بلدة دير شرف غربي المدينة بالسواتر الترابية، وحاجزَي حوارة وعورتا جنوبيها، وطريق المساكن شرقيها، وشدّد من إجراءاته على حاجز صرّة، وقطَع طريق تل، وطريق عصيرة الشمالية في اتّجاه الناقورة، ونصَب حواجز على مداخل سبسطية شمال غرب المحافظة، وعلى مدخل بيت فوريك شرقاً، وذلك إثر سلسلة عمليات إطلاق نار نفّذتها مجموعات «عرين الأسود» الثلاثاء، وأسفرت إحداها عن مقتل جندي إسرائيلي قرب مستوطنة «شافي شمرون».
ويرى الكاتب والمحلّل السياسي، نهاد أبو غوش، في حديث إلى «الأخبار»، ما يجري في الضفة حالياً «انعكاساً لِما كان ينمو ويتطوّر خلال الشهور الماضية من رفض وتحدٍّ للاحتلال»، لافتاً إلى أن «إسرائيل تشنّ هجوماً شاملاً على الشعب الفلسطيني في غزة والقدس وجنين ونابلس، في محاولة منها لفرض الحلّ النهائي عليه بقوّة الحديد والنار، وإخضاعه للقبول بأن أقصى ما يمكن أن يحصل عليه هو الحُكم الإداري الذاتي». ويشير أبو غوش إلى أن «ما تقوم به إسرائيل من جرائم، مرتبط بسعْيها لتدفيع الشعب الفلسطيني ثمناً باهظاً بسبب رفضه الاحتلال وتمسّكه بالمقاومة، لكن إسرائيل تتناسى أنها تُواجه الشعب الفلسطيني بكامله، وليس فصيلاً أو منظّمة أو هيئة؛ فعلى سبيل المثال، يعيش 150 ألف فلسطيني شمال شرق القدس تحت حصار مشدَّد منذ أيام، ونابلس يبدو أنها مرشّحة لحصار مشابه، وبالتالي لا بدّ أن يؤدي ذلك إلى ردّات فعل من المقاومة، بدأت تنمو وتتّسع، في اتّجاه الانتظام والتبلور، كما نشهد في ظاهرة عرين الأسود التي باتت عصيّة على الشطب والقلع». ويُذكّر بأن «إسرائيل حاولت قمع وإلغاء المقاومة في مخيم جنين، لكنها تَطوّرت وامتدّت إلى بقيّة المناطق مثل كرة اللهب، وهذه المقاومة هي في الحقيقة ثمن ما تقوم به إسرائيل التي تعتقد أن ما تملكه من قوّة هو فرصة لفرض ما تريد من حلول»، مضيفاً إن «إسرائيل أعلنت سياستها في الأراضي الفلسطينية، والتي تتلخّص بـ"العصا والجزرة"، حيث تريد إجبار السلطة الفلسطينية على الاكتفاء بدورها الأمني من دون أيّ دور سياسي، ومعاقبة المناطق الجغرافية التي يخرج منها الفدائيون، وتقديم تسهيلات وامتيازات للمناطق الهادئة أمنياً، ولكن النتيجة أن كلّ المناطق الفلسطينية والمحافظات والمدن والقرى باتت منخرطة في الموجة الانتفاضية الجديدة نفسها».
وتأتي هذه الموجهة لتُعاكِس سياسة العدو القائمة على تكثيف البناء الاستيطاني، ونصْب الحواجز العسكرية، وشقّ الشوارع الالتفافية الرابطة بين المستوطنات على حساب أراضي الفلسطينيين، وبناء جدار الفصل العنصري، من أجل تحويل الضفة إلى كانتونات معزولة بعضها عن بعض. ويُعدّ ذلك ترجمة للاستراتيجية الصهيونية المعتمَدة منذ احتلال الضفة عام 1967، والمرتكزة على تفكيك هذه المنطقة جغرافياً واقتصادياً وسكّانياً، في إطار ما يُعرَف بـ«خطّة آلون» الهادفة إلى انتزاع الحدّ الأقصى من الجغرافيا الفلسطينية، مقابل التخلّي عن عبء إدارة المواطنين الفلسطينيين. وبلغ هذا المشروع، أخيراً، مراحل متقدّمة، تجلّت العام الحالي في مصادرة 22 ألف دونم شرقي الضفة، في سياق السياسة الهادفة إلى جعل إقامة دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً وذات سيادة، أمراً مستحيلاً، وتحويل المدن الفلسطينية إلى مناطق تعيش كلّ منها بشكل منفرد، من دون أيّ تواصل سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي إلّا برعاية الاحتلال، في الوقت الذي يواصل فيه الأخير تسمين «دولة المستوطنات»، حيث تشير تقديرات إسرائيلية وفلسطينية إلى وجود نحو 650 ألف مستوطن يهودي في مستوطنات الضفة بما فيها القدس المحتلّة، يسكنون في 164 مستوطَنة، و116 بؤرة استيطانية.
يبدو المشهد أقرب إلى استعادة للحالة التي كانت عليها الضفة في الانتفاضة الثانية

كذلك، صادقت اللجنة المنظّمة في «الكنيست»، العام الماضي، على تقديم وعرض مشروع قانون «تسوية المستوطنات الصغيرة»، أي البؤر الاستيطانية العشوائية، للبدء بمسار إقراره، بما يعنيه من مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية، وإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية، وربطها بمستوطنات أخرى، ومحاصَرة الفلسطينيين، سواء في القرى أو البلدات الفلسطينية التي لن تربطها بعضها ببعض سوى الشوارع الالتفافية الاستيطانية، والأنفاق التي خَطّط لها الاحتلال، والتي ستكون تحت سيطرته. ويقول الخبير في الاستيطان، عبد الهادي حنتش، في هذا الإطار، لـ«الأخبار»، إن «إسرائيل قسّمت الضفة إلى عدّة كانتونات»، مضيفاً إن «الشعب الفلسطيني اليوم يعيش في 8 سجون كبيرة منعزلة، يتحكّم الاحتلال بإغلاقها وفتحها من خلال بوّابات أو أنفاق». ويلفت حنتش إلى أن «الضفة باتت مؤلّفة، وفق المشروع الاستراتيجي الإسرائيلي، من 15 جزءاً، 6 منها تمثّل الكتل الاستيطانية الكبيرة، وجزء واحد يمثّل المستوطنات المعزولة، و8 كانتونات فلسطينية معزولة بعضها عن بعض ترتبط بشارع التفافي أو نفق».
إزاء ذلك، لا تلوح في الأفق أيّ مؤشّرات تهدئة في الضفة؛ فحالة الغليان في الشارع الفلسطيني وصلت إلى مستويات عالية، فيما السياسات العدوانية الإسرائيلية، سواء من خلال عمليات الإعدام والقتل، أو نصب الحواجز على الطرقات ومداخل المدن وعزلها بعضها عن بعض، أو تكثيف اقتحامات منازل الفلسطينيين، أو انتهاج سياسة العقاب الجماعي ضدّ المناطق التي قد تشهد عمليات مقاومة، لا يُتوقّع إلّا أن تستمرّ وتتعمّق. وعليه، يبدو المشهد أقرب إلى استعادة للحالة التي كانت عليها الضفة في الانتفاضة الثانية.