في خضمّ معركة «وحدة الساحات» مطلع شهر آب الماضي، هدّد وزير جيش الاحتلال، بيني غانتس، باغتيال الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، زياد النخالة. الأخير كان قد كلّفه الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، لأوّل مرّة، بتأسيس الجناح العسكري للحركة في مطلع الثمانينيات، قبل أن يتولّى عام 1995 منصب نائب الأمين العام لـ«الجهاد»، عقب اغتيال الشقاقي، فيما ترأّس الراحل، الدكتور رمضان عبد الله شلح، قيادة الحركة. منذ ذلك الحين، بقي النخالة واحداً من أبرز الشخصيات الديناميكية الفاعلة في أروقة «الجهاد»، ولا سيما لناحية الإشراف المباشر على تأسيس الجناح العسكري الثالث، «سرايا القدس»، وعمله. غير أنه، طوال تلك الفترة، أقلَّ من الظهور على وسائل الإعلام، وظلّ يعمل بصمت، إلى أن فرضت الظروف عليه قيادة الحركة عقب مرض الأمين العام السابق، شلح، في عام 2018.
نهج ثابت
يُحسَب لأمناء «الجهاد» الحفاظ على الخطوط العريضة الثابتة للحركة. لا يقتصر الحديث، هنا، على التمسّك بخيار المقاومة تحت كلّ الظروف، وإنّما يشمل أيضاً الثبات على الموقف السياسي المتعلّق بالنظرة المتمايزة إلى أيّ سلطة يمكن أن تُقامَ تحت الاحتلال. إذ نأت «الجهاد» بنفسها عن التنافس الداخلي الحزبي على رئاسة السلطة، كما حافظت حتى اليوم على موقفها الجذري الرافض لأيّ حلول جزئية ومرحلية. في وعْي الحركة وقناعاتها، فلسطين من البحر إلى النهر هي «أرض وقْف إسلامي» لا يجوز التفريط بها، ولو بشكل مرحلي.

زياد النخالة في عزاء الشهيد فتحي الشقاقي في تشرين الأول 1995 (أرشيف)

ومن هنا، أخذت «الجهاد» على رفيقتها في المقاومة، «حماس»، قبولها في وثيقتها السياسية الصادرة عام 2017، إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967؛ إذ إن تسجيل تنازل كهذا، من وُجهة نظر الأولى، ليس مرفوضاً من الناحية المبدئية العقائدية فقط، بل هو أيضاً «تنازل مجاني عديم الفائدة، لا تقيم له إسرائيل التي تبني واقعاً يتجاوز المبادئ السياسية والأفكار، أيّ وزن»، كما تقول. صمدت «الجهاد»، أيضاً، في وجه طوفان «الثورات العربية»، واستطاعت أن تَعْبره من دون تبعات على علاقاتها بحلفائها وأصدقائها، فيما بدت توقّعاتها متواضعة بخصوص نتائج تلك «الثورات»، وإنْ كانت هي نفسها حركة ثورية من حيث المبدأ. كذلك، حافظت «الجهاد» على بقائها خارج أروقة السلطات المتعاقبة، فهي لا تقبل بـ«أوسلو» ولا بأيّ انتخابات أو مفرزات تَنتج منه، وتَعتبر أن الانتخابات التي تُقام تحت الاحتلال، «مقبرة لكلّ الانتفاضات الحيّة».

ما الذي فعله النخالة؟
إذا كان زياد النخالة لا يقارَن بنظيريه الشقاقي وشلح، لجهة المستويَين الخطابي والثقافي، فهو لا يقلّ عنهما في فهمه السياسي الدقيق لمجريات الأمور. يجيد ابن الـ69 عاماً تسمية الأمور بأسمائها. يتحدّث ببساطة، يُفكّك المشهد السياسي بكلّ براعة، ثمّ يعيد تركيبه. «لكي تواجه إسرائيل يجب أن تفهمها»، يقول النخالة بلغة مجرَّدة من كلّ أبيات الشعر والكنايات والاستعارات، مُوجِّهاً بمُنتهى أدب الخصومة والاختلاف، انتقاداته إلى السلطة في رام الله، مخاطِباً إيّاها بالقول: «هل ستُخبرون الشعب المجاهد كيف بدأ التنازل خطوةً خطوةً، حتى بتّم محاصَرين في رام الله، لا تستطيعون حتى الكلام عن فلسطين وعن القدس، وإذا تكلّمتم تتكلّمون عن الشرعية الدولية التي أعطت فلسطين لليهود وطناً قوميّاً؟! وأصبحتم تطاردون أبناء شعبكم مقابل أوهام صنعتموها». ولا تستثني هذه الصراحة حتى رفاق السلاح في «حماس»؛ إذ انتقد النخالة ما اعتبره «تساوُقاً» من قِبَل الأخيرة مع «مخطّط السلام الاقتصادي»، متسائلاً في أحد خطاباته: «كم يجب أن ندفع من أرواحنا طوعاً ليرضى عنا الاحتلال، ويسمح لنا بأن نعمل خدماً وعبيداً لديه في أرضنا؟! وكم يجب علينا أن نقدّم ضحايا للعدو من أبنائنا ونصمت، ليرضى عنا، ونصبح حائزين على جوائز وتصاريح للعمل في أرضنا المغتصَبة؟!».
على أيّ حال، استطاع الأمين العام الحالي لـ«الجهاد» قيادة الحركة بالجرأة والتمرّد نفسَيهما اللذَين رافقا بدايتها، وانتقل بها من المحافظة على الإرث في ظلّ محاولات الاستقطاب والتأثير والأدلجة، إلى المبادرة نحو تغيير الوقائع والتحكّم بسياقات الأحداث. ولعلّ بساطة النخالة وصدقه هما العاملان الأبرز من بين العوامل الملهِمة في شخصيّته، خصوصاً أن «الجهاد» انتقلت خلال السنوات الأخيرة من «إطار نخبوي يضمّ طليعة المفكّرين والمثقفين»، إلى توجّه جامع للمقاتلين «البسطاء»، الذين يطمحون إلى أداء دورهم الوطني، من دون الغوص في تعقيدات الواقع واستراتيجيات الصراع، على قاعدة «لن يتوقّف الجهاد ما دام هناك احتلال لأيّ جزء من فلسطين»، كما قال الشقاقي يوماً.