الغضب الأميركي العارم الذي عبّر عنه مسؤولون كُثُر في إدارة الرئيس جو بايدن وخارجها، حيال قرار «أوبك +» خفْض الإنتاج، والذي وُجّهت سهامه بشكل محدّد إلى وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، لا يتعلّق فقط بالقلق الذي تُسبّبه الانتخابات النصفية المقبلة للديموقراطيين. كما أن أسبابه تتخطّى تأثير القرار على مساعي إدارة بايدن لإيجاد مخارج للأوروبيين بعد توريطهم في حملة العقوبات والحصار ضدّ روسيا على خلفيّة الحرب الأوكرانية. هو يصل، في واقع الأمر، إلى تمادي ابن سلمان المتزايد في تحدّي الإرادة الأميركية، ومُحاولته المتواصلة توسيع هامش اللعب الخاص به بعيداً عن المصالح الأميركية المباشرة، والمتمثّلة في هذه المرحلة في الجهود التي يقودها بايدن لعزل موسكو المنتِجة للطاقة، فضلاً عن عمله الدؤوب على خفْض أسعار الوقود للأميركيين قُبيل الانتخابات النصفية، التي أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تَقدّم الجمهوريين فيها بـ 5 نقاط في اقتراع الكونغرس العام، في نتيجة من شأنها أن تضْمن للحزب الجمهوري الفوز بمجلس النواب، وتجعل مجلس الشيوخ معركة صعبة على الديموقراطيين. ولذا، أعادت ردود الفعل الأميركية العنيفة فتْح الملفات دفعة واحدة في وجه وليّ العهد السعودي، المنغمس في جهود ترتيب المشهد قبل اعتلائه العرش خلَفاً لأبيه الملك المريض، ما يضع زيارة بايدن الأخيرة لجدّة ولقاءه الملك ووليّ عهده في ميزان الربح والخسارة مجدّداً. وفي هذا الإطار، بدأت بعض الأصوات داخل الإدارة الأميركية تتحدّث عن فشل زيارة بايدن للسعودية، مع ما يعنيه ذلك من إعادة العلاقات بين واشنطن والرياض إلى المربّع الأول الذي انطلق منه الرئيس في حملته الانتخابية، حيث توعّد بجعل السعودية «منبوذة» وتدفيعها الثمن.أمْضى بايدن وقتاً طويلاً من رئاسته، حتى الآن، في العمل على خفْض التكاليف، والإشراف على أكبر عملية بيع للنفط من احتياطي البترول الاستراتيجي لتعويض النقص الناجم عن العقوبات الغربية على صادرات الطاقة الروسية، حتى وصل إلى مرحلة أعلن فيها أن الولايات المتحدة «لا تفكّر في إصدار إصدارات جديدة» من الاحتياطي الاستراتيجي، إلّا أن قرار «أوبك +» الأخير جاء ليشكّل صدمة لإدارته التي ترى في ارتفاع أسعار الطاقة في الولايات المتحدة خطراً سياسياً كبيراً على الديموقراطيين قُبيل الانتخابات النصفية. وعلى هذه الخلفيّة، كشف تقرير لشبكة «سي أن أن» أن واشنطن قد تَعتبر قرار خفض إنتاج النفط «عملاً عدائياً» ضدّ الولايات المتحدة، مع ما يستوجبه ذلك من تدخّل الكونغرس والبيت الأبيض في الآن نفسه، وخصوصاً لناحية تسريع إقرار مشروع «NOPEC» (منع التكتّلات الاحتكارية لإنتاج وتصدير النفط)، الذي سيجعل منظّمة «أوبك»، في حال إمضائه، عُرضة للعقوبات، وهذا ما لمّح إليه مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، بحديثه عن أن «الإدارة ستتشاور مع الكونغرس بشأن الأدوات الإضافية والسلطات التي يمكن استخدامها لتقليل سلطة أوبك على أسعار الطاقة». ويندرج الخيار المتقدّم ضمن سلّة خيارات، قال البيت الأبيض إنها مطروحة على الطاولة لمواجهة قرار خفض الإنتاج، ومنها سحْب كمّيات إضافية من الاحتياطي البترولي الاستراتيجي للبلاد، وزيادة عمليات التنقيب عن النفط في الولايات المتحدة، وفرض مزيد من الإجراءات الصارمة؛ من بينها وضع قيود على الصادرات، وصولاً إلى تسريع مسار إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والذي سيوفّر ملايين براميل النفط للأسواق العالمية.
أعادت ردود الفعل الأميركية العنيفة فتْح الملفّات دفعة واحدة في وجه وليّ العهد السعودي


من جهته، دافع بايدن، في إطار تعليقاته الكثيفة على قرار «أوبك +»، بأن زيارته الأخيرة للسعودية لم تكن تتعلّق بالنفط، محاولاً في ذلك التقليل من أهمّية التقارير والتصريحات الأميركية حول فشل الزيارة من جهة، وفشل فريق المستشارين المحيط بالرئيس، والذي «ورّطه» في لقاء مع ابن سلمان ربّما لم يكن أوانه قد حان بعد. وإلى تبريرات بايدن، لا يكفّ أيّ معلّق أو مسؤول أميركي عن التعبير عن خيبة الأمل إزاء السعودية بسبب تعزيزها تحالفها النفطي القائم مع روسيا، والذي قد يؤدّي، من ضمن ما سيؤدّي إليه، إلى حدوث اضطراب في الأسواق العالمية، وفي العلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج، وفي معنويّات الناخبين الأميركيين، الذين تلقّوا ضربة «أوبك +» القاسية، بعد صدمة «إعصار إيان»، ما يثير مخاوف من أن يؤثّر كلّ ذلك على نسبة المشاركين في الانتخابات النصفية المقبلة.
وفيما يحاول السعوديون امتصاص النقمة الأميركية، عبر الحديث عن «تحييد ملفّ إنتاج النفط والطاقة وأسعارها عن المقايضات السياسية»، كون محرّكها هو اقتصادي بحت، اقترح الكثير من الأعضاء الديموقراطيين في الكونغرس «إجراءات تأديبية» بحقّ السعودية. وفي ردود فعل انفعالية باتت معتادة مع تذبذب العلاقات بين واشنطن والرياض، قال السيناتور كريس ميرفي، رئيس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية للشرق الأوسط في مجلس الشيوخ: «أعتقد أن الوقت حان لإعادة تقييم شامل للتحالف الأميركي مع السعودية»، فيما قدّم توم مالينوفسكي وشون كاستن وسوزان وايلد، تشريعاً في مجلس النواب يسعى إلى سحْب القوات الأميركية من السعودية والإمارات. واقترح النائب روبن جاليجو، من جهته، أن تستعيد الولايات المتحدة أنظمة «باتريوت» للدفاع الصاروخي المنتشرة في السعودية، وقال: «إذا كانوا يفضّلون الروس إلى هذا الحدّ، فيمكنهم استخدام تقنيتهم العسكرية الموثوقة للغاية».
لكن التجربة السابقة لبايدن مع الملك وابنه تَجعل من احتمال ذهاب الإدارة الأميركية بعيداً في مواجهة السعودية أمراً غير موثوق بالنسبة إلى الكثير من الأميركيين، أقلّه في هذه المرحلة. وهو أمر عبّر عنه الزميل الأول في معهد «كاتو»، جاستن لوغان، بالقول، في تصريح، إنه «عندما يتعلّق الأمر بجهود الولايات المتحدة لجعل السعودية تفعل ما نريده، فإن واشنطن تبدو كَمَن ينبح ولا يعضّ، والرياض تعلم ذلك». ويبدو أن ردّ فعل بايدن الأوّلي على قرار «أوبك +» عندما قال إنه يشعر بـ«خيبة أمل»، يدلّ على صحّة وجهة نُظر لوغان، ويؤشّر إلى أن واشنطن مكبّلة، بطريقة أو بأخرى، في مواجهة ابن سلمان، الذي بدا أنه يُحسن استغلال نقاط ضعف الرئيس الأميركي، وحاجة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إليه، في الوقت نفسه.