«وجود الطفلة في حضن أبيها بدّد غضبي ولذلك غيّرت الخطّة»[الشهيد سمير القنطار عن عمليّته الفدائيّة]

لمن يتذكّر مشاهد «وحدة الظل» القسامية مع جلعاد شاليط، تلك وهو يقوم بالشواء محاطاً بابتسامات شهدائها، أو وهم يشاركونه المائدة ذاتها على الأرض، فإنّ هذه المشاهد لا تعكس قراراً حربياً وسياسياً تكتيكياً، ينطلق هدفه ويتمحور في إشهار أن هذه أخلاقنا مع الأسرى. فلو أطفأت آلة التصوير أمام الشهداء، لن تتغيّر أفعالهم أو تصرفاتهم، فلا علاقة للممارسة الأخلاقية هنا بالمصلحة والمنفعة الإعلامية، فهم يستطيعون إظهار حسن التعامل بإخراج فيديوات دونما عفوية، لكن مشهد المائدة على وجه التحديد يرينا أن هذه الممارسة لا تنمّ عن منطلق قيمي أخلاقي مجرّد، بقدر ما هي ممارسة أصحاب الأرض أن فلسطين لنا، ونحن نمارس ملكيّتنا لها دون تصنّع، وما نقوم به هو سجايانا وعاداتنا بشكلها المبسّط دونما حسابات. فقط أعيدوا مشاهدة ذلك الفيديو وستتكشّف لكم الفكرة.
لفهم المسألة أكثر، علينا النظر إلى ممارسة الغرباء عن الأرض لـ«الأخلاق»، ليس ممارساتهم اللاأخلاقية بل «الأخلاقية» منها، أو ما يراد أن تصوّر أنها كذلك. على سبيل المثال، حين الكشف عن المقبرة الجماعية لشهداء الجيش المصري بداية العام الجاري، المسألة لم تكن من باب «الشفافية» أو «المصالحة مع التاريخ» أو عبر أيّ منطلق «أخلاقي». بل إن المسألة ممارسة فائض قوة، وهي سياسة تتبعها بمثابرة جميعُ مجتمعات ما بعد الإبادة الأوروبية من نيوزيلندا إلى كندا، مروراً بالولايات المتحدة، القائمة على الكشف عن الجريمة بعد وقوعها وحينما تصبح تاريخاً، بحيث يكون لديهم اليوم فائض القوة التاريخي وتبعات الكشف عنها لن تؤثّر عليهم.
إن الوصول إلى مرحلة «ما بعد الإبادة» هو هدف كيان العدو وديدنه، أن تصبح النكبة ماضياً حدث وانتهينا ولا سبيل لنا اليوم لتغييره. من هنا، نفهم هوس الصهاينة هنا بصور الأبيض - الأسود غير الملوّنة، ورغبتهم في تحويل كل شيء إلى ماضٍ. ومن الجهة الأخرى، نفهم أيضاً أهمية محض وجود الفلسطيني وصموده في أرضه، والأهم دور لاجئي المخيمات في الخارج وآلامهم وحفاظهم على هويتهم الفلسطينية وعلى هدف العودة، فالدور التاريخي للمخيم من النيرب إلى البرج الشمالي أن يكون «محطة انتظار لحين العودة» كما خطّ على بوابة مخيم جنين.
إن إفشال وصول الصهاينة إلى حالة مجتمع ما بعد الإبادة يؤبّد إحدى معضلاتهم البنيوية التاريخية. يطلق جيش العدو على ذاته أنه «الجيش الأكثر أخلاقية في العالم»، ولا يندرج هذا النعت ضمن حملة الغسيل الأبيض لجرائم الصهاينة للرأي العام الخارجي، بل إن هدفه الأساس مخاطبة مجتمع الكيان لنفسه. الكيان الصهيوني يقوم على التوفيق بين نقيضين، الاستعمار وممارسة الإبادة، من جهة، ومن جهة أخرى أيديولوجية صهيونية قائمة على سردية «استرداد الحق» وصوابية فكرتها السياسية والتاريخية. وعليه، أحد أهم عوامل تماسك جمهور الصهاينة هو ديمومة تصورهم الداخلي للصواب والأحقّية والسموّ الأخلاقي على «العربي الهمجي والمتوحش» الذي يفسد في الأرض حيث هم يعمّرونها. هذه النقطة ليست حصرية للاستعمار الصهيوني، فجميعنا نتذكّر كيف غذّى فينا الأميركيون ونحن أطفالاً نتسامر على أجهزة التلفاز مشاهد أفلام كرتون تستعرض الهندي الأحمر الشرير الذي يتراقص حول النيران، بيد أن كيان العدو يفشل في تحقيق ذلك، وليس فقط لعطبه اللازم بل لأننا نفشله.
الوصول إلى مرحلة «ما بعد الإبادة» هو هدف كيان العدوّ وديدنه


إن علاقة الكيان بالخطاب الأخلاقي علاقة نفعية، الأخلاق عنده هي أداة، يستخدمها لضمان استمراريته والحفاظ على الكيان السياسي. موضوع العلاقة بالممارسة الأخلاقية هي أحد أهم مصاديق أنه كيان مصطنع، سكانه دخلاء على هذه الأرض. تصنّع الأخلاق بشكل مبتذل تحت مظلة منظومة أخلاقية ليبرالية، أحياناً تكتسي الثوب الديني كاسم منظمة «بتسيلم» المستوحى من سفر التكوين، هي من ضمن التناقضات الهوياتية والدينية والتاريخية التي يحاول المشروع الصهيوني التوليف بينها بالصمغ. أي أن الخطاب الأخلاقي هنا هو ملازم للوجود المادي للكيان، فعليه، بشكل متعمّد ومهندس، صياغة صورة أخلاقية، كما أن عليه أيضاً تصنّع القوة «الجيش الذي لا يقهر». جدير بالإشارة إليه هنا أن كل هذه الركائز المعنوية التي يقوم عليها الكيان مرتبطة بالجيش، وهذا لا يدلّ فقط على أن هذا المجتمع الاستعماري هو مجرد قاعدة عسكرية كبيرة، بل إن مركزية الجيش بالنسبة إلى الأيديولوجيا الصهيونية نظّر لها بن غوريون بشكل صريح على أنها النواة - أو الصمغ - الذي يوفّق بين هذه التناقضات ويجمعها.
في المقابل، الفلسطيني المرميّ في العراء وبلا كيان سياسي لا يحتاج إلى تصنّعه؛ منظومة أعراف المجتمع وأخلاقه قائمة ضمن هذا السياق بذاتها. وحتى مع استثناء الروافد الأخلاقية العربية الإسلامية، يجب النظر إلى الممارسة الأخلاقية للفدائيين والمقاومين طوال تاريخ الصراع كأحد أبرز مصاديق أننا أصحاب الأرض. سموّنا الأخلاقي ذاتيّ قائم على أننا نمارسه من يقين وإيمان لا ريب فيه بأن فلسطين أرضنا، وممارستنا أخلاق القتال فيها واختيارنا كيف نقاتل غزاتنا هو أحد تعابير سيادتنا وعلاقتنا الأزلية مع هذه الأرض. فلا يخلطنّ أحد ممارستنا للأخلاق مع تبنّي معايير ومنظومات أخلاقية ليبرالية أو قوانين دولية أو أي تخاريف أخرى. الأخلاق الليبرالية المعولمة وجدت في ظل بنية وعالم يدوم فيه امتياز الغربيين على حساب قهرنا. وهي وجدت ليتصنّعها المستعمر والبورجوازية العربية من نخب ومثقفين وأكاديميين الذين يدور رحاهم في الغرب. فلاستحقاق الأخلاق الغربية شرط طبقي، أمّا شرطنا انتماؤنا لأرضنا، وبإمكاننا إضافة أنها دليل على أننا نشكل حركة تحرر وطني، فلا نحن نتقمّص إجرام المستعمر وعملائه ولا تبنينا منظومة قيمية مشوّهة روّجها وساقنا لسرابها الاستعمار.
هذا الوعي الثوري والسموّ الأخلاقي العربي الذي جسّده مقاومو «عرين الأسود» في نابلس في عدم تعرضهم لأطفال الغزاة، ما هو سوى تجسيد مصغّر لماهيّتنا ولصدق قضيتنا وشرف انتمائهم لفلسطين القضية الأسمى، وأن لبؤرة انتفاضة الضفة اليوم ركيزة ترفع رؤوسنا جميعاً وترتقي لحجم نقاء شهدائها وصدقهم. وعلى النقيض، يعلم العدوّ أثر قتل الأطفال وإعاقتهم، وأنّ استهدافهم المتعمّد والمنهجي هو إحدى ركائز مشروع الإبادة الصهيوني التي لن يتم التوفيق بينها مع أيّ تصنّع للأخلاق. مسألة ارتباط كل حرب في غزة في ذاكرتنا بمجزرة بأطفال من دار واحدة، آخرها في الساعات الأخيرة من معركة «وحدة الساحات»، ليست اعتباطية، بل رسالة تشفّي داخلية لمجتمع العدو «انظروا، لقد قتلنا أطفالهم»، وكذلك للضغط علينا للركون وخوف العاقبة بأنهم سيقتلون أطفالنا. إلا أن الصهاينة، طوال التاريخ، لم ولن يفهموا أن هذا الاستهداف لن يكون رادعاً، ويكفي هنا استذكار أن المعلم أبو رعد صرّح بأنه حسم أمره أنه لن يسلّم نفسه للعدوّ لأن صهيونياً ترجّل من سيارته وأعدم الطفل محمد زكارنة على قارعة الطريق، في مشهد لا يمكن تخيّل أن يقدم عليه صاحب الأرض الحقيقي. فالمتوحّش والهمجي والقاتل والإرهابي هو هم، لا نحن.