في مطلع شهر تشرين الثاني 2005، اغتالت إسرائيل الضابط في جهاز الأمن الوقائي الفلسطيني، حسن عطية المدهون، الذي كان أضحى خلال سنوات الانتفاضة الثانية، أحد أبرز قادة «كتائب شهداء الأقصى»، الذراع العسكرية لحركة «فتح». المفارقة التي حملتْها تلك الحادثة، أن المدهون قضى برفقة القيادي في «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، فوزي أبو القرع. طوال سنوات، كان القائدان قد خطّطا ونفّذا عشرات العمليات الاستشهادية المشتركة بين الحزبَين المتنافسَين. يَذكر مَن عايش حقبة ما قبل الانتفاضة الثانية، أن المدهون ذاته كان قد نفّذ في يومٍ ما أمراً عسكرياً اعتَقل بموجبه أبو القرع على خلفيّة النشاط الحزبي للأخير، لكن الانتفاضة أعادت نظْم الوقائع السياسية والميدانية على نحو مغاير. لم يكن وارداً حتى في أسوأ حسابات مُهندسي «أوسلو» أن الانقلاب على أهمّ النِّتاجات الاستراتيجية للاتفاقية، سهلٌ إلى هذا الحدّ، إذ خلال عام واحد، تَحوّل المئات من قادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، إلى مقاومين وقادة في الذارع العسكرية لـ«فتح». حدث ذلك على رغم الاشتغال الدؤوب على تحويل الثورة إلى دولة - قبل موسم ازدهار الأولى -، وما رافقه من نقل الفدائيين وقادة السلاح كافّة من خنادق ومتاريس دول الطوق، إلى مكاتب الأجهزة الأمنية، المَنوط بها حماية اتفاق عام 1993 من رافضيه، أي المقاومين الجدد المتمثّلين في حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي». لم يكن التحوُّل المذكور، ابتداءً، بقرار من «أبو عمار» فحسب، بل الحقيقة، بحسب ما يقول الباحث السياسي مجد ضرغام في حديثه إلى «الأخبار»، «أعمق من ذلك، إذ إن إسرائيل بسلوكها كانت قادرة على أن تُحوّل شعباً كاملاً إلى قنابل، ثمّة ثوابت لا يستطيع أكثر القادة السياسيين براغماتية وواقعية تجاوزها، والمسجد الأقصى واحد منها. كما أن العقلية الإسرائيلية القائمة على الكِبر وغرور القوة، والتي ترفض إعطاء الفلسطينيين أيّ حق آدمي في الحياة، أسهمت في فقدان الثقة في خيار المفاوضات وقدرته على تحقيق أيّ من الآمال الجزئية».
خلال عام واحد، تَحوّل المئات من قادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، إلى مقاومين


من وُجهة نظر إسرائيلية، فإن الأجهزة الأمنية الفلسطينية شُكّلت أساساً لتكون وكيلاً لأجهزة أمن العدو. تُحلّل إليور ليفي، وهي مراسِلة الشؤون الفلسطينية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، هيكلة الأولى بقولها: «جهاز "المخابرات الفلسطينية العامة" يقابله "الموساد" الإسرائيلي، ويتولّى الأوّل ملاحقة خلايا الفصائل قبل أن تُبادر في تنفيذ فعل عسكري ضدّ إسرائيل؛ وجهاز "الأمن الوقائي" يقابله جهاز "الشاباك"، والوقائي مهمّته ملاحقة التنظيمات وتقويض أنشطتها الاجتماعية والإعلامية والترويجية؛ فيما تتولّى وحدة "الكوماندوز أو الوحدة المختارة" في الأمن الفلسطيني مهمّة حماية الرئيس أبو مازن، وهو ما يعكس الدور المهمّ الذي تقوم به هذه الأجهزة في السلطة الفلسطينية (...) الهدف من تشكيل هذه الأجهزة هو تأمين الحماية وفرض النظام في مناطق السلطة، حيث كان من المقرَّر وفقاً للاتفاقيات تشكيل ستّة أجهزة أمن مختلفة، ولكن الرئيس الراحل، ياسر عرفات، شكّل عدداً مضاعَفاً منها خوفاً من تركيز القوّة في يد عدد من الأشخاص، ووزّع الأدوار على عدد أكبر مِمَّن يدينون له بالولاء لإبقاء سيطرته على الأمور كافّة».
غير أنه ووفقاً للصحافية الإسرائيلية، فإن تغييراً طرأ على دور الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة في عهد «أبو عمار»، حيث شارك عناصرها في الانتفاضة الثانية، وهو ما دفع إسرائيل إلى تدمير مقرّاتها الأمنية، الأمر الذي أفضى إلى تراجع سيطرتها على الشارع. يعلّق ضرغام على تلك الجزئيّة بقوله: «الحق أن قيادات الأجهزة الأمنية مِثل يوسف ريحان ورائد الكرمي أضحوا قادة في المقاومة، واستفادوا من الخبرات العسكرية التي تحصّلوها في الدورات التي خضعوا لها تحت مظلّة السلطة وبإشراف أميركي وغربي، في رفْع مستوى الفعل العسكري للمقاومة خلال سنوات الانتفاضة، ما أدّى إلى منافسة شهداء الأقصى بعمليّاتها النوعية، فصائل العمل المقاوِم الأخرى». بدوره، يرى محمد حجازي، وهو باحث ومحلّل سياسي، أن «الروح المعنوية التي ألهبت الشارع خلال انتفاضة الأقصى الثانية، ساهمت في تسريع انخراط مكوّنات الشعب الفلسطيني كافّة في المقاومة، إذ إن العدوان الإسرائيلي لم يستثنِ أحداً (...) في محطّات تاريخية ومفصلية كتلك، لا أحد يَقبل على نفسه أن يكون شاذّاً، الفلسطيني يَقبل أن يُقال عنه أيّ شيء، إلّا أن يُتّهم بأنه عميل ووكيل للاحتلال، وهذا بيت القصيد». ويضيف حجازي: «اليوم، نشاهد في الضفة كيف يتفلّت عناصر الأجهزة الأمنية من العقيدة القتالية التي عمل على تعميمها الجنرال الأميركي، كيث دايتون، لسنوات، حيث يقوم هؤلاء بعمليات فردية، وغداً، سيفرض الحدث المتصاعد على الجميع الانخراط بشكل معلَن في تلك الحالة. لا شيء تَغيّر عن عام 2000، السلوك الإسرائيلي ذاته، والفلسطيني هو نفسه».