هي لم تصبح انتفاضة كاملة بعد، على رغم قابليّتها لذلك، وتَوفّر العوامل المساعدة لها والمحفّزة عليها. من وُجهة النظر الأمنية والسياسية الإسرائيلية الغالبة، لا تزال الأحداث الحالية في حدود «التوتّر الأمني» و«أعمال العنف» المتصاعدة، والتي يمكن كبحها بغيْر عملية عسكرية واسعة، على رغم وجود دعوات في الكيان إلى تنفيذ عملية كهذه، على غرار «السور الواقي». على الجهة المقابلة، في مدن الضفة الغربية وبلداتها ومخيّماتها، ثمّة اعتقاد بين المقاومين، والقاعدة الشعبية الداعمة لهم، بأن المسار الذي افتُتح لا عودة عنه، وأن كلّ يوم يمرّ على هذه الحالة يقرّب الجميع أكثر من تكرار تجربة الانتفاضة الثانية أو «انتفاضة الأقصى»، مع اختلاف الظروف الحالية والإمكانات والتهديدات.يدرك المراقبون الإسرائيليون أن المقاومين في الضفة، اليوم، هم «نوع جديد من المسلّحين». ففي نابلس على سبيل المثال، المسلّحون هم شبّان صغار ليس لديهم انتماء تنظيمي واحد، ويملكون السلاح والحافزية، وبعضهم يلتزم القتال داخل المدينة ودفاعاً عنها أمام اقتحامات الجيش الإسرائيلي، وبعضهم الآخر يتسلّل إلى خارجها لتنفيذ عمليات داخل التجمّعات الإسرائيلية سواء في مستوطنات الضفة أو الداخل المحتلّ. أمّا في جنين، فالمقاومون أيضاً ليسوا من حركة «فتح» فقط، على رغم الشعبيّة التي لطالما تمتّعت بها الحركة هناك، بل هم متعدّدو الولاءات بين «فتح» و«حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وثمّة أيضاً مِنهم مَن هم غير منتظِمين فصائلياً، لكن يملكون السلاح ويتفاعلون مع الأحداث الجارية، ومع تاريخ المدينة ومخيّمها، وخصوصاً خلال الانتفاضة الثانية، حيث سُجّلت في جنين ومخيّمها أعنف المواجهات العسكرية وأطولها وأكثرها دمويّة. وبهذا، شكّلت حالتا نابلس وجنين خصوصاً، نموذجاً لوحدة فصائل المقاومة، وقتالها كتفاً إلى كتف في مواجهة عدوّ لا يفرّق في الميدان في ما بينها.
في الشهور الأخيرة، برزت في صدارة المشهد في الضفة شخصية استثنائية، كان لها دور أساسي في التحريض على مقاومة العدو، والدعوة إلى التمسّك بوحدة المقاومين، وتحفيز عناصر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة وضباطها على الالتحاق بالمقاومة ووقْف «التنسيق الأمني». هو المُطارَد من قِبَل الاحتلال، فتحي خازم، والد الشهيدَين الفدائيَّين رعد وعبد الرحمن، والعميد المتقاعد في أجهزة السلطة، والملقَّب بـ«شيخ المُطاردين»، لكونه الأكبر سنّاً من بينهم. نجح «أبو رعد» في الإفلات من قبضة العدو، على رغم محاصرة منزله مراراً ثمّ تدمير جزء منه؛ إذ في كلّ مرة كان يخرج في مقاطع فيديو جديدة يبدو فيها أكثر إصراراً على المقاومة، وآخرها قبل أيام إثر استشهاد ولده عبد الرحمن في اشتباك مع الاحتلال في مخيم جنين، حيث وقف فوق جثمان ابنه، وحثّ على استمرار الاشتباك. وخلال تشييع نجله ورفاقه، تداول الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لفتحي وهو يؤدّي التحية العسكرية لزوجة الشهيد القائد الشهير، يحيى عياش، خلال مشاركتها في تأبين الشهداء. كما استقبل «أبو رعد»، خطيب المسجد الأقصى الشيخ عكرمة صبري، خلال زيارته المخيّم لتقديم التعازي. أيضاً، ينشط المقاوم المسنّ على مواقع التواصل، حيث يعبّر عن مواقفه الداعية إلى المقاومة، والتي يجري تداولها على نطاق واسع. ودائماً ما يتعرّض «شيخ المطاردين» لضغوط من مسؤولين كبار في السلطة بهدف حمْله على تسليم نفسه، حتى يكفّ العدو عن مطاردته وعائلته، لكنه يدأب على رفض هذه العروض.
دعا البعض إلى إجراء «تسويات» مع المطاردين


هذا «النوع الجديد» من المقاومين، وضع العدو، وكذلك السلطة، أمام موقف معقّد، لا تنفع معه أدوات المعالجة التقليدية. ويُضاف وجه التعقيد هذا إلى وجوه أخرى، من بينها ضعف الأجهزة الأمنية، وترهّل مؤسّسات السلطة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتطوّر إرادة المقاومة لدى جيل جديد من الشبان. ما يجري الآن، هو في جوهره ضرْب لأصْل الفكرة التي تأسّست السلطة عليها، أيْ تحقيق بعض الطموحات الفلسطينية من خلال المفاوضات والاتفاقات، الأمر الذي لم يحصل، والدليل على ما تَقدّم تعطّل المفاوضات السياسية و«حلّ الدولتين» لسنوات طويلة. كما تعيش السلطة، خلال السنوات الأخيرة، أزمة اقتصادية مستفحلة، في ظلّ تراجع الاهتمام الدولي والإقليمي بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وبالتالي تضاؤل برامج المساعدات المالية إلى مستويات قياسية. والأهمّ مما سبق، هو الشعور المتعزّز لدى جميع الأطراف الفلسطينية بأن نهاية زمن محمود عباس باتت وشيكة، في وقت بدأت فيه بوادر الصراع على خلافته داخل «فتح»، والذي لن تكون بقيّة الفصائل بعيدة منه، حيث تهيّئ «حماس» و«الجهاد الإسلامي» نفسيهما لملء الفراغ المنتظَر.
في مقالة نشرها موقع «القناة 12» العبرية، تَشارك في كتابتها رئيس «شعبة الاستخبارات العسكرية» السابق عاموس يادلين، والأستاذ المحاضر في «معهد السياسات والاستراتيجيا في هرتسيليا» أودي أفينتال، دعا الرجلان إلى «التركيز على تعزيز قوّة أجهزة السلطة الفلسطينية وسيطرتها على الأرض». إذ يمكن، بحسبهما، «إعادة إنتاج النجاحات السابقة مثل "اتفاق المطلوبين" و"نموذج جنين" عام 2008 عقب الانتفاضة الثانية». حينها، كجزء من «عملية أنابوليس»، نقلت إسرائيل السيطرة على منطقة جنين بأكملها إلى أجهزة السلطة، مقابل تعهّد الأخيرة بـ«إعادة القانون والنظام وإحباط الإرهاب في المنطقة». أيضاً، قادت الولايات المتحدة، آنذاك، جهوداً لتعزيز حُكم السلطة، وقد «جاءت النتائج رائعة تحت قيادة رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض»، حيث «عاد القانون والنظام إلى جنين بما في ذلك مخيم اللاجئين، واختفت الفوضى وتمّ كبح الإرهاب» بحسب الكاتبَين. ومع ذلك، لا ينكر هذان أن «شروط تكرار النجاح اليوم أكثر صعوبة، حيث نظام سياسي إسرائيلي منقسم وغير مستقرّ ومليء بالتوتر، ورفض إسرائيلي لأيّ عملية سياسية، وحكومة فلسطينية ضعيفة، وعدم استقرار وتحدٍّ من حماس والجهاد الإسلامي في نهاية عهد أبو مازن، بالإضافة إلى أمور أخرى».
لكن إذا كان مَن انخرطوا في حملة «اتفاقات المطلوبين» عقب الانتفاضة تأمّلوا خيراً في السلطة الفلسطينية وقدرتها على تحقيق بعض مطالبهم، فضلاً عن حمايتهم من السطوة الإسرائيلية، فإن المقاومين من أبناء اليوم يدركون تماماً أن لا مجال لتأمّل مماثل حالياً، حيث لا تزال تجربة آبائهم شاخصة أمامهم، فمنهم من قُتل لاحقاً أو اعتُقل، أو جُرّد من سلاحه وتُرك بلا عمل ولا وظيفة... وهذه التجربة هي تماماً أكثر ما يحذّرهم منها ابن أجهزة السلطة سابقاً، وابن «فتح»، المطارَد فتحي خازم، حيث لا أمل راهناً إلّا بمقاومة موحّدة ومستمرّة.