لم تكن انتفاضة الأقصى وليدة ردّ فعل موضعي على اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك، آرييل شارون، باحات المسجد في الـ28 من أيلول 2000. إذ ثمّة إرهاصات عديدة اختمرت طويلاً، قبل أن تدْفع الرئيس الراحل، ياسر عرفات، إلى تزكية هذا التَوجّه وقيادته. ذلك أن مفاوضات الحلّ النهائي في كامب ديفيد في حزيران 2000، فشلت في الوصول إلى أيّ صيغة توافقية تقود إلى تطبيق ما اتُّفق عليه في أوسلو عام 1993، في ظلّ تمسُّك إسرائيل بأطماعها في الإبقاء على سيطرتها على الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلّة. كان الطرح الإسرائيلي حينها يقضي بأن تُقدّم إسرائيل ما نسبته 83% من مساحة الضفة للفلسطينيين، مع إبقاء سيطرتها على عدد من الكتل الاستيطانية، وتأجيل البتّ في قضية القدس إلى وقت لاحق، وهو ما قاد «أبو عمار»، بالنتيجة، إلى التفكير بطريقة أكثر صدامية. يقول فريح أبو مدين، وهو وزير العدل السابق و«الصندوق الأسود» لعرفات، إن عاملاً آخر ساهم في تدفّق دماء جديدة في أوردة رئيس السلطة، ألا وهو الاندحار الإسرائيلي عن لبنان في أيار 2000، والذي أدّى إلى «اشتهاء السلاح من جديد». يلفت أبو مدين، في حديثه إلى «الأخبار»، إلى أن «أبو عمار كان مسكوناً بتجربة حزب الله، حيث أدرك بعد الهزيمة الإسرائيلية في الجنوب، أن جيش إسرائيل يمكن أن يُهزم وينكسر، وأن تجربة الجيوش العربية التي هُزمت أمام الهيلمان الإسرائيلي ليست معياراً ناجزاً، ولا تعطي حُكماً قدَرياً ومطلَقاً بتفوّق إسرائيل، وأن السلاح قادر على قلْب المعادلة بشكل تراكمي (...) لذا بدأ أبو عمار بالتواصل مع فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي، وطلب منها التجهّز لبدء العمل من جديد».
بالنسبة إلى زعيم السلطة الفلسطينية، لم يكن مطلوباً من الانتفاضة أن تستمرّ إلى ما لا نهاية. أراد عرفات، وفق مقرّبين منه، التلويح بورقة تُقنع الإسرائيليين ومِن خَلفهم الإدارة الأميركية، بأن «الرصاصة لم تزلْ في جَيبه». الرجل الذي كان يقول في مطلع السبعينيات إن «البندقية وحدها هي التي تستطيع رسْم خريطة المنطقة»، وجد في مطلع الألفية الثانية أن العلّة التي قادت إلى مصير كـ«أوسلو» لم تكن في السلاح، بقدْر ما هي في «طريقة توظيفه وإدارته، بالإضافة إلى الظروف التي خلقها رُعاته العرب»، وفق ما يقول المحلّل السياسي، إسماعيل محمد، في حديث إلى «الأخبار»، لافتاً إلى أن «أبو عمار يختلف عن أبو مازن، الأوّل هو ابن الثورة المسلّحة، ابن الخنادق، أصبح رئيساً للسلطة وأبْقى على لبْس البدلة العسكرية، أمّا عباس، فهو المُنظّر الأوّل للواقعية السياسية، وهو مَن روّج لطاولة المفاوضات في ذروة ألق السلاح، وفي ريعان الشعارات الكبيرة (...) لذا، كان الذهاب إلى السلاح خياراً حاضراً في ذهن عرفات وممارسته، حين أدرك أن إسرائيل تشتري الوقت، لصناعة واقع احتلالي استيطاني يقوّض فُرصة إقامة الدولة من الأساس».
بالنسبة إلى عرفات لم يكن مطلوباً من الانتفاضة أن تستمرّ إلى ما لا نهاية


لم يكن قرار «أبو عمار» إشعال المقاومة المسلّحة شفوياً، إذ سارع إلى التواصل في بداية الانتفاضة مع القيادي في «الجبهة الشعبية - القيادة العامة»، أحمد جبريل، وطلب منه أن يسارع في تزويده بالسلاح. يقول «أبو جهاد»، وهو قيادي في «كتائب شهداء الأقصى» عايش تلك الفترة، إن «أبو عمار بعث إلى جبريل برسالة من أربع كلمات، هي: أوسلو انتهت، نريد سلاحاً»، لكن الأخير لم يأخذ الرسالة على محمل الجدّ، لا سيما أن سوريا و«حزب الله» وإيران كانوا قد اتّخذوا موقفاً جذرياً من تَوجّهات عرفات. هنا، برز دور الشهيد جهاد أحمد جبريل، الذي بادر إلى إقناع والده بضرورة استغلال الفرصة القائمة، لأن «مَن يطلب السلاح، لا يتحدّث عن حدث تحريكي مؤقت». ويضيف «أبو جهاد»: «عقب ذلك، تلقّف الإخوة في حزب الله مطالب أبو عمار، وشرعوا ومعهم أحمد جبريل، في إرسال السلاح إلى قطاع غزة، وبدأت وحدات من حزب الله بالتواصل مع كتائب شهداء الأقصى والأذرع العسكرية لفصائل المقاومة في الضفة، بغرض التدريب على صناعة المتفجّرات، وتكتيكات استخدام السلاح، حتى إن حزب الله أرسل بعضاً من جنوده بجوازات سفر مزوَّرة إلى الضفة الغربية، حيث تولّوا بأنفسهم تدريب خلايا المقاومة، ومنهم الشهيد فوزي أيوب».
لكن الانتفاضة لم تقف عند حدود ما أراده «أبو عمار»، بل «خرجت مِن إطار فعل كان يجب أن يبقى مضبوطاً بهدف سياسي، وهو طرد الاحتلال من الضفة الغربية وتطبيق القرار 242 بالقوة، إلى طموحات أكثر اتّساعاً وجذرية»، وفق ما يقول محمد، مشيراً إلى أن «كلّ تنظيم طبّق قناعاته العقائدية في القتال من دون هدف سياسي قابل للتحقيق على المدى القريب، بل بطموحات جذرية إلى التحرير الكامل من البحر إلى النهر (...) لا نريد أن نقول إن ذلك خطأً، بقدْر ما هو تباين في البرامج والأفكار، قاد إلى ممارسة فوضوية من دون أهداف واضحة».