يعاني الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، متلازمة الإنكار، التي تَدفعه إلى رفض الواقع كما هو، مع تَجنُّب مواجهته في الوقت نفسه، ما يحمله بالتالي على محاولة معالجة تداعياته من دون النظر في أسبابه. يتجلّى ذلك في القفز على حقيقة كوْن الاحتلال المسبّب الرئيس للمقاومة، والسعي إلى قمع إرادة المقاومين الفلسطينيين، وهو ما من شأنه، على عكْس إرادة العدو، مضاعَفة حافزيّة هؤلاء، وتلك هي المشكلة الرئيسة التي تُواجهها إسرائيل. ولعلّ العامل الذي يفاقم من هذه الحافزية، هو أن الاحتلال لا يكتفي بما استطاع الاستحصال عليه إلى الآن، بل يريد الاستحواذ على كلّ حقوق الفلسطينيين، أرضاً وحجراً وممتلكات، وصولاً إلى تهشيم هويّتهم الفلسطينية، في ما يمثّل استراتيجية إلغاء لا مناص من أن تَدفع الفلسطينيين إلى المقاومة، مهما كانت الأثمان والتضحيات. واللافت في أفعال المقاومة الأخيرة، هو الطابع الفردي الذي يغلب عليها؛ والفردية دليل واضح على أن واقع الفلسطينيين في الضفة لم يَعُد قابلاً للاحتمال أو للاحتواء، وأن سياسة التجريف باتت تلامس وجود الفرد وهويّته، لا وجود الجماعة وهويّتها فقط. إزاء ذلك، لا ترى إسرائيل في وجودها احتلالاً، بل وتُخادع نفسها بأنها تعمل على استرداد «حقوقها التاريخية» من الفلسطينيين - الذين هُم من سُلبوا حقوقهم فعلياً -، وهو ما لا يؤدّي إلّا إلى توليد مزيد من التعقيدات، والدفْع نحو إبقاء الطرفَين في دائرة مفرغة، لا يبدو أن ثمّة مخرجاً منها إلّا نحْو معادلة صِفرية عنوانها: إمّا إسرائيل، وإمّا الفلسطينيون. وإلى جانب إغراقه في معاندة الواقع، تأتي نظرة الإسرائيلي إلى ذاته، والمجبولة بالاستعلاء والفوقيّة، لتُضيف عنصر تعقيد جديداً ورئيساً إلى المشهد؛ إذ إن تشرُّب الإسرائيليين، منذ صِغرهم، الإيمان بأنهم من صِنف «أسمى » من البشر، من شأنه أن يدفعهم إلى إنكار أيّ حق للآخرين، الأمر الذي يترجَم بقوّة ووضوح في الضفة، حيث نزْع الحقوق يتحوّل إلى استيلاء «قانوني وشرعي يحوز رضى الله وشريعته»، فيما «الأغيار» دون مستوى أن يكونوا ملّاك أرض وأصحاب حقوق. والتطرُّق إلى المحدّدَين المذكورَين ليس من باب «الترف الفكري»، بالنظر إلى أن هذَين يشكّلان جزءاً لا يتجزّأ من أسباب التصعيد الحالي في الأراضي المحتلّة، إنْ لم يكونا على رأس هذه الأسباب.
في الوقت الضائع، تعمل إسرائيل على استهلاك جيشها واحتياطيّه في الضفة


بالاستناد إلى ذلك، يمكن ملاحظة الآتي في المشهد المستعر في الضفة:
أوّلاً: لا يزال الإنكار الإسرائيلي على حاله، حيث تعتقد دولة الاحتلال أن ممارساتها وسياساتها لا ربْط بينها وبين المقاومة، على رغم كون الأولى السبب الأساسي للتصعيد. وهكذا، تبْقى تل أبيب في الدوّامة عيْنها، والتي تتلخّص بالآتي: واقع «احتلالي» يتسبّب بعمليات مقاومة، تُقابله اعتداءات لا تفعل إلّا تزخيم الدافعيّة إلى هذه العمليات، من دون وجود أيّ أفق للخروج.
ثانياً: تُعاند إسرائيل في تعاطيها مع هذا الواقع، وذلك عبر التمسّك باستراتيجية «الاقتصاد مقابل الهوية»، وهي استراتيجية جرى استهلاكها إلى حدّ كبير من دون طائل؛ إذ إن الثمن الذي يُراد للفلسطينيين أن يدفعوه، والمتمثّل في الهوية الفردية والجماعية، أعلى من أيّ عائد اقتصادي محتمَل.
ثالثاً: يبقى الرهان على السلطة الفلسطينية قائماً، وإنْ تسبّبت إسرائيل نفسها بإضعاف أجهزة السلطة، إلى الحدّ الذي جرى فيه التعامل مع الأخيرة بلغة الاستعباد: أي استدرار فوائد كاملة منها، من دون أيّ مقابل؛ وهو ما يمثّل، في جزء منه، ترجمة طبيعية لعقيدة الإسرائيليين، ونظرتهم الدونيّة إلى الآخرين.
رابعاً: في الوقت الضائع، تعمل إسرائيل على استهلاك جيشها واحتياطيّه في الضفة، عبر تشديد الخناق على الفلسطينيين بهدف منْعهم من تنفيذ مزيد من العمليات، أو الانخراط في مواجهات إضافية، الأمر الذي من شأنه تأجيل النتيجة لا إلغاؤها. وفي ظلّ هذه المراوحة، تعلو المطالبات باجتياح كامل لمدن الضفة وبلداتها ومخيّماتها، أو في حدّ أدنى مدن شمالها حيث «بؤر المقاومة»، إلّا أن سيناريوات كهذه ستُدفّع الاحتلال أثماناً بشرية، وهو ما يمنعه إلى الآن من المصادقة على خيارات عسكرية شاملة. والأكيد أنه لا يمكن فصْل ذلك عن المزايدات المحتدمة عشيّة انتخابات «الكنيست»؛ إذ إن مَن في الحُكم يتريّث في قراره بخصوص الضفة كي لا يستتبع تداعيات تُخسّره الانتخابات، فيما مَن في المعارضة يزايد ويطالب بعمليات واسعة، إن قُدّر له أن يفوز في الانتخابات، سيتردّد بدوره كثيراً في الإقدام عليها.
بالنتيجة، وبحسب تقديرات المراكز البحثية في تل أبيب، فإن «الضفة الغربية تحترق، والمزيد من الشباب الفلسطيني يلتحق بالمقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، وهؤلاء يرفضون حكومة السلطة الفلسطينية وزعيمها». أمّا الردّ العملي الإسرائيلي على ذلك، والمتمثّل في عملية عسكرية مِن مِثل «كاسر الأمواج»، فمن شأنه أن يزيد الدافعيّة نحو «موجات إرهاب» إضافية، فيما أجهزة السلطة غير قادرة (وبالكاد تريد) نزْع فتيل الوضع المضطرب. وبالنتيجة، «الفوضى على حافّة الهاوية»، و«اليوم الذي يلي (رئيس السلطة محمود) عباس» بات هنا بالفعل.