إن فكرة اللجوء أو الهرب إلى أوروبا، هي فكرة تراود كل فلسطيني في لبنان، والقصة معروفة للقاصي والداني، ابتداءً من القوانين المجحفة بحق الفلسطيني، وانتهاءً بالفقر والعوز التاريخي اللاحق بهم، والذي استفحل في ظل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، والتي استوى فيها هذه المرة اللبناني والفلسطيني على حدّ سواء.لكن من هو المسبّب للحالة التي وصل إليها الفلسطيني في لبنان؟
نستطيع القول مباشرة إنه الاحتلال الإسرائيلي، والغرب من ورائه، وهذه أسباب تاريخية معروفة، لكن لماذا لم يكن حال اللاجئ الفلسطيني في سوريا، أو الأردن، أو أي بلد عربي لجأ إليه، كحاله في لبنان. لماذا اللاجئ الفلسطيني في سوريا لديه كامل الحقوق (ما عدا التصويت والترشح للانتخابات)، وفي لبنان محروم من أكثر من سبعين مهنة؟
السبب بكل بساطة هو نظرة الدولة أو الحكومات للاجئ الفلسطيني، وللأسف الشديد في لبنان هي الأقسى، ولن أخوض في مسار تاريخي حول نظرة الطوائف في لبنان للجوء الفلسطيني، فما يراه البعض، بنظرة عنصرية، أن الفلسطيني هو المسبّب الأول أو أحد مسبّبات الحرب الأهلية، ليس صحيحاً أو دقيقاً، فالخلاف بين اللبنانيين، وبالعودة إلى التاريخ، واضح أن اللاجئ الفلسطيني يدفع ثمناً باهظاً مبنياً على مواقف تاريخية مرّت بها العلاقة اللبنانية الفلسطينية.

مراحل العلاقة اللبنانية الفلسطينية، وأزمة الصورة النمطية
في الجزء الثاني من كتاب «اللجوء الفلسطيني في لبنان؛ كلفة الأخوة في زمن الصراعات» الصادر عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني التابعة لرئاسة مجلس الوزراء، يشير إلى "مرحلتين كبيرتين في العلاقة مع اللاجئ الفلسطيني؛ المرحلة الأولى التي سبقت فترة 1967 والتي تميزت بأنها مرحلة انسجام وتوافق سياسي وشعبي، مخالفة للصورة النمطية التي تكونت لاحقاً، لتأتي الأعوام التي تلت عام 1967، وصولاً إلى مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، لتتكون الصورة السلبية والناتجة من التوظيف السياسي من قبل الأطراف المختلفة اللبنانية والفلسطينية، وما حدث أن اختلاف المواقف والأهداف بين هذه الأطراف حمّلت تبعاته للمدنيين اللبنانيين، كما للمدنيين الفلسطينيين" (دار سائر المشرق، ص89 ).
طبعاً، هذه صورة مبسطة عن الصورة النمطية، وهي وإن كانت كما تصفها لجنة الحوار، لم تقتصر على السياسيين، بل هي صورة تتوارثها الأجيال، واستفحلت مع اللجوء والنزوح السوري إلى لبنان.
إن الجهود التي بذلتها لجنة الحوار الفلسطيني اللبناني، في سبيل إقرار الحقوق الإنسانية للاجئ الفلسطيني، لم تثمر إلا حقوقاً متواضعة جداً، فالمشوار لا يزال طويلاً، لماذا، لأن الاستنتاج السابق الذي وصلت إليه لجنة الحوار حول الصورة النمطية للفلسطيني لم تتغير، وهي بدورها تشكل عقدة كبيرة، باعتبار أن شريحة لبنانية كالمسيحيين يرفضون أي تغيير في الواقع المعيشي للفلسطيني في لبنان خوفاً من التوطين، وما يعتبرونه فقداناً للتوازن الطائفي لمصلحة المسلمين على حساب المسيحيين، هذا إذا افترضنا أن الفلسطيني يريد فعلاً التوطين.

هل نجري كفلسطينيين حواراً مع المسيحيين لتتغير النظرة، فيكون هو الحل؟
ربما هذا الكلام من الصعوبة بمكان، ويكاد يكون مستحيلاً، وإني في كلامي هذا لا أقود أي أحد إلى اليأس، أو الهرب من هذا الواقع عبر قوارب البحر الخطرة، فما نتابعه حالياً من خلاف سياسي داخلي لبناني مستفحل، إذ تجري أحاديث عن كونفدرالية وتقسيم لبنان، وما يشير إليه الواقع الاقتصادي الكارثي، الدافع لهجرة اللبنانيين وفئة الشباب تحديداً إلى الخارج، كفيلة بمنع أي حوار في هذا الشأن.

هل انعدمت الحلول؟ فأصبحت قوارب الموت سفينة النجاة؟
لن أخوض في العوائد والتحويلات المالية للفلسطيني في لبنان، فهي واضحة وصدر الكثير من الدراسات التي تتحدث عن ملايين الدولارات التي يصرفها الفلسطيني في لبنان سنوياً، لكن في إطار الحلول، واضح أنه من غير تغيير القوانين التي تستدعي توافقاً إسلامياً مسيحياً في لبنان، لجهة إعطاء الحقوق الإنسانية للاجئ الفلسطيني، والسماح له بالاستثمار، وإنشاء مؤسسات ومشاريع، إما بجهود الفصائل، أو السلطة أو منظمة التحرير، سيبقى الفلسطيني في حلقة الإغاثة التابعة للأونروا العاجزة أصلاً، وبالتالي ستستمر أزمة القوارب؛ ولو أن أهل السلطة في لبنان نظروا للفلسطيني من البوابة الاقتصادية، في ظل هذه الأزمة، وبحثوا عن العوائد الاقتصادية الفلسطينية التي يمكن الاستفادة منها في حال تغيير القوانين، لجذب الاستثمارات ورؤوس الأموال، حتى من اللاجئين الفلسطينيين اللبنانيين في الخارج، لربما ساهمت هذه النظرة في تخفيف حدة الأزمة للفلسطيني واللبناني معاً، وخفضت من أرقام البطالة المخيفة.
ربما من الصعب جداً توقع أن هذا الأمر سيتحقق، لكن من العقم الفكري، عدم التفكير بذلك، ولو تصرفت تركيا ومصر وغيرها من البلدان العربية بأزمة اللجوء السوري، كما يتعامل لبنان مع اللاجئ الفلسطيني، لخسرت الكثير من رؤوس الأموال السورية. إذاً، الحل ليس في قوارب الموت والمخاطرة بحياة الرجال والنساء والأطفال، فما يحصل جريمة، إنما الحل هو بتغيير القوانين، وسنّ اللازم منها من أجل عيش الفلسطيني عيشة طبيعية، وإلى أن يحصل ذلك، فمسؤولية اللاجئين هي على الفصائل الفلسطينية والسلطة والمبادرات المجتمعية الفلسطينية في الخارج، ولا نستطيع الاعتماد على الأونروا حصراً، وإلا حتماً سنكون أمام سفينة أرواد جديدة.