من الواجب التوقف ملياً عند قراءة النظام السياسي الفلسطيني، فقد مرّ أمام محطات تاريخية عديدة، غنية ومتنوعة، وذلك لأن التجربة السياسية الفلسطينية التي تميزت عن غيرها، تُعدّ نموذجاً خاصاً، لا يمكن دراسته وتحليله، انطلاقاً من المقاربات العلمية المتّبعة في دراسة النظم السياسية الحديثة الأخرى.إن فرادة التجربة الفلسطينية، تجعل الحديث عن الشرعية السياسية للنظام السياسي الفلسطيني، متشعباً، ويقودنا إلى متاهات كثيرة، لكن يمكن التقاط بعض العناوين الرئيسية التي تشمل بنية هذا النظام، وعلى رأسه القيادة الممسكة والمتمسّكة بزمام الأمور منذ عقود، وهذا يعني أن كل ما أنتجه وينتجه من القيادات السياسية، المختلفة المشارب الإيديولوجية، والاجتماعية والطبقية - إن صح القول - يصب في خانة واحدة، ويعيش البنية الذهنية والسلوكية نفسها، في الفعل السياسي، ويتغطى تحت مظلة الشعارات الكبرى المرفوعة ذاتها، منذ ما يقرب القرن من الزمن، وعلى رأس تلك الشعارات، الأولوية في إدامة الصراع مع الاحتلال، سواء أكان سياسياً أم عسكرياً، وربما كان هذا الشعار خداعاً وماكراً، ولديه القدرة والفعالية لحجب الرؤية عن واقع وحال النظام السياسي الفلسطيني اليوم الذي يرفض الاحتكام إلى العملية الديمقراطية الانتخابية، خوفاً من عملية الانكشاف.
فبدلاً من هذا، استبدلت القيادة الفلسطينية، سواء في منظمة التحرير الفلسطينية، أو السلطة الفلسطينية ومؤسساتها، وكذلك فصائل العمل الوطني، الاحتكام إلى الشعب، عبر صندوق الانتخاب، بآلية مبتكرة تزاوج بين فعلين متناقضين، الأول يدّعي أو يدّعى عليه أنه ديمقراطي، والثاني، الحديث المستدام عن القيادة التاريخية. وبين الفعلين وقع الفلسطيني في شرك عملية الوهم هذه، ووصل الحال بالنظام السياسي الفلسطيني اليوم إلى قمة أزماته، وأصبحت قياداته مجتمعة تعيش مأزقاً تاريخياً، فكل الشعارات التي رفعتها طوال عقود، واختبأت خلفها لم تتحقق، وأصبح السؤال المحقّ، يتعلق بدور القيادة الفلسطينية في إعادة إنتاج الهزيمة التاريخية التي لحقت بنا منذ النكبة وحتى هذا الوقت.

الاغتراب عنوان الواقع
في المقابل يعيش الشارع الفلسطيني في الداخل والشتات، حالة اغتراب كبرى، لا تملأها كل الوعود التي أثبتت زيفها وخاصة في العقدين الماضيين، فالقيادة السياسية الهرمة بالمعنى العمري والمعنى الفعلي، العاجز عن الإنجاز، تجاوزت كل الحدود، ووصلت إلى حد الإفلاس السياسي والأخلاقي، وبدل التسليم بحقيقة الواقع ونتائج فعلها، لجأت للهروب إلى الأمام، عبر سلسلة من الأفعال، تقوم على صناعة الأزمات السياسية والاجتماعية، للبقاء في الصدارة، الأمر الذي أدى إلى تعطل عمل المؤسسات الفلسطينية الحكومية والمدنية والأهلية والفصائلية كافة، حيث تحول المشهد إلى ساحة من الخراب. وعبر جيش الموظفين التابعين لتلك المؤسسات الذين استخدمتهم لحجب الرؤية، أنتجت مجتمعين يعيشان تحت سقف واحد، واحد صغير، يتربع على عرش المؤسسات الحكومية ويتناسل عائلياً، ولا أهمية للكفاءة في هذا الحال، ويمتد فعله إلى كلّ السفارات والمؤسسات في الخارج، مجتمع قبلي بثوب الحداثة، منفصل عن الواقع، وبالتالي منفصل عن القضية والشعب، مع ملاحظة أن الفصائل الفلسطينية الكبرى بدأت تنحو نحو هذا المسار، وتنتج قبيلتها الخاصة بها.
في المقابل هناك مجتمع ملايين الفلسطينيين في الداخل والشتات، في المدن والقرى والمخيمات، لا تربطهم صلة مطلقاً بالنظام السياسي الفلسطيني، ولا يرون به القدرة على التعبير عن كينونته الحقيقة، ولا حتى الحد الأدنى من إمكانية التقاطع والالتقاء، ففي أكثر التقديرات تفاؤلاً، لا يتعدى المنخرطون في الفعل الوظيفي والسياسي الفلسطيني 5% من أفراد الشعب الفلسطيني، ولنا أن نتخيل هذا الكم وهذا النوع من هدر الطاقات.
الشعار الذي أطلقه الرئيس الراحل عرفات على النظام السياسي الفلسطيني، ديموقراطية غابة البنادق، من أكثر الشعارات الحاجبة للرؤية


من ديمقراطية غابة البنادق إلى صالة الفنادق
يُعد الشعار الذي أطلقه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، على النظام السياسي الفلسطيني، ديمقراطية غابة البنادق، من أكثر الشعارات الحاجبة للرؤية، حيث استمر هذا الشعار بمفاعيله حتى هذا الوقت، وكان المقصود من طرح هذا الشعار، أن شرعيته متأتية من فعل البنادق التي تهدف إلى تحرير البلاد، وأن البندقية المقاتلة وحاملها وقائدها يمتلكون الحق بالتعبير عن أطياف الشعب الفلسطيني كافة، ولأن الثورة كانت قائمة في ذلك الوقت، انخرط الكل الفلسطيني بها، وإلى حد ما، حظيت القيادة الفلسطينية بإجماع شعبي كبير، لكن الأمر بعد أوسلو اختلف، فأصبح من الصعب الاختباء خلف هذا الشعار، وأصبح الكل الفلسطيني مجمعاً على ضرورة الخروج من هذا المأزق التاريخي، فالبلاد لم تتحرر، لا بالفعل السياسي ولا العسكري، وأصبح سؤال ما العمل؟ من أكثر الأسئلة إلحاحاً.
إن ظروف هزيمة حزيران 1967، ساهمت بإنتاج القيادة الفلسطينية التي نالت كل الشرعية من الشعب الفلسطيني، لأنها بكل بساطة كانت تنتمي إلى هذا الشعب، تقدمت الصفوف، قاتلت واستشهدت دفاعاً عن شعارات رفعتها، فكانت مؤمنة بها قولاً وفعلاً، في حين أنتجت هزيمة عام 1982، قيادة فلسطينية عبّرت عن نفسها بالتيار الإسلامي المقاتل، الذي يقدم نفسه اليوم منافساً للتيار العلماني الفلسطيني، ويحاول منذ سنوات أن يحظى باعتراف المؤسسات الرسمية الفلسطينية، عبر الانخراط بها، لكن الباب ما زال مغلقاً بوجه هذا التيار حتى هذا الوقت، وبالمناسبة فإن التيار الإسلامي لجأ إلى شعارات تحت يافطة دينية، الهدف منها التهرب من استحقاق الشرعيات المؤجلة، وتحت عنوان لا يفتي قاعد لمجاهد، وهو إلى حد ما يتطابق مع ديمقراطية «غابة البنادق» كونه يؤدي إلى نفس المعنى والغايات والأهداف، عبر التهرب من المساءلة التاريخية عن تحقيق الإنجازات، والذي يدفع الى وجوب استبدال القيادة، وكما ذكرنا أن البنية الذهنية للقائمين على النظام السياسي الفلسطيني، بنية واحدة، فلا غرابة أن النتيجة ستكون واحدة.

الشباب الفلسطيني بين الهجرة والهجران
أمام حالة التشظّي والاغتراب في الواقع السياسي الفلسطيني الذي انعكست آثاره على شريحة الشباب الفلسطيني، فأخذ بالتفتيش عن حلول فردية لأزمة عامة، تنكره وتهمّشه. هذه الحلول تقوم على تقديم الأولوية على الحلول العامة، وذلك عبر الهجرة إلى البلدان الغربية.
تشير بعض التقارير الإعلامية الفلسطينية والعربية، إلى مغادرة أكثر من مئة ألف شاب فلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية منذ الانقسام في عام 2007، إلى الدول الأوروبية، وهذه الشريحة من الشباب المؤهلة علمياً ومهنياً، لم تجد نفسها قادرة على الاستمرار والانخراط في واقع مأزوم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، ففضّلت البحث عن خياراتها الفردية في فضاءات مجتمعية أخرى، تعتقد أنها قادرة على استيعابها، وبغضّ النظر عن اختلاف الأسباب الدافعة للهجرة سواء من غزة أو الضفة أو مخيمات الشتات، وبغضّ النظر أيضاً عن نسبة الأعداد المذكورة، الظاهرة ماثلة للعيان، ولا يزال سيل الهجرة هادراً ولم يتوقف إلى الآن، على اعتبار أن الأسباب الفعلية الدافعة للهجرة، في المقام الأول، الهجران الممارس للشباب، من القوى والمؤسسات الفلسطينية كافة التي باتت تطفو على سطح آسن من الفساد.
أخيراً، وبعيداً عن التمني والأمنيات، وبعيداً عن الرغبات، لكن قياساً بمسار الشعب الفلسطيني، أثبتت الوقائع، أن الهزيمة، لم تمنع من هذا المد الثوري، الذي ترك بصمته في كل بيت فلسطيني، وراكم تجربة ثرية، وبالتالي فإن هذا المد قادر الآن على اجتراح المعجزات.