دفعت إسرائيل، من جديد، ساحة الضفة الغربية المحتلّة إلى مزيد من الاحتقان، الذي من شأنه أن يؤدّي إلى الانفجار الشامل، على رغم تقديرها إمكانية تَسبّبها به. وأقدمت دولة الاحتلال على ذلك، مع أن اقتحامها مخيّم جنين، وإسقاطها عدداً من الشهداء والجرحى، لن يؤمّنا لها، على الأرجح، «البضاعة» اللازمة، بل سيُبقيانها في الدائرة المفرغة عيْنها، من اعتداءات تتسبّب بردود فلسطينية، وردود تستتبع اعتداءات، وهكذا. ويأتي هذا بينما ينتشر في الضفة، بحسب التقارير العبرية، ما يصل إلى 30 كتيبة، تعمل على محاصرة الفلسطينيين، وتقطيع أوصال مناطقهم، في ما يشبه خناقاً دائرياً يكاد لا يستثني أيّ بلدة، مردّه إلى التقديرات الاستخبارية بأن الحوافز الفلسطينية لشنّ عمليات ضدّ الاحتلال باتت في أوجها، وأن الإجراءات التقليدية، سواءً تلك التي تقوم بها إسرائيل نفسها أو تتولّاها عنها السلطة الفلسطينية، لم تَعُد تؤدّي النتيجة المطلوبة منها. على أن ردّة الفعل الاستباقية هذه، تبدو أشبه بمحاولة للتعمية على حقيقة الواقع، والتي تُظهر أن ثمّة فشلاً إسرائيلياً ممتدّاً في استراتيجية التعامل مع الفلسطينيين، عنوانه سقوط آخر ما ابتكره العدو من أساليب لترويض هؤلاء. بتعبير آخر، تتعامل إسرائيل مع مظاهر المقاومة ضدّها في الضفة على أنها أصْل المشكلة، فيما هي ليست في الواقع سوى عوارض للجذْر الرئيس، المتمثّل في الاحتلال نفسه. طيلة السنوات الأخيرة، صبّت دولة الاحتلال جهودها على دفْع الفلسطينيين إلى التسليم بأن أرضهم لم تَعُد لهم، والتخلّي عن هويّتهم وقضيّتهم، مقابل عطاءات اقتصادية دورية لصالحهم. وقد وجدت هذه الاستراتيجية، بالفعل، مَن يروّج لها ويتبنّاها، إلى حدّ أنها باتت هي الاستراتيجية الفُضلى لدى القيادتَين السياسية والعسكرية في الكيان، تبعاً لمدى يمينيّتهما. وما ساعد إسرائيل في مسعاها لتثبيت معادلة «احتلال ديلوكس بلا أثمان»، هو أنها استطاعت تطويع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية لصالحها، وتحويلها إلى وكيل عنها في قمع أيّ تطلّع فلسطيني إلى التمرّد على تلك المعادلة. على أن شهيّة الاحتلال كانت مفتوحة إلى أبعد ممّا يمكن أن يتحقّق له من خلال السلطة، وهو ما دفعه إلى التغوّل حتى ضدّ الأخيرة، الأمر الذي استتبع إضعاف قدرتها على القيام بالمهام المطلوبة منها، علماً أن العكس ما كان ليؤدّي إلى غير الواقع القائم حالياً، ولكنّه على الأقلّ كان سيمنح إسرائيل مزيداً من الوقت لإنكار الواقع، وتمْنية النفس بأن القضية الفلسطينية باتت وراءها.
ما حدث بالأمس في مخيّم جنين لا يُقاس بعدد الشهداء والجرحى مقابل الخسائر الإسرائيلية البشرية وغير البشرية


أن تتحوّل الضفة، بعد سنوات من تطبيق تلك الاستراتيجية، إلى ثكنة عسكرية كبيرة «تُسجَن» فيها معظم وحدات الجيش الإسرائيلي وأجهزته الأمنية، لَهو أوضح دليل على فشل السياسات الإسرائيلية السابقة، الأمر الذي بات موضع اعتراف من قِبَل الكثيرين في دولة الاحتلال. هكذا، سقط خيار «الاقتصاد مقابل الهوية»، كما سقط خيار «القمع عبر الوكيل» المتمثّل في السلطة الفلسطنية. كذلك، ثبت أن استراتيجية تفريق الساحات الفلسطينية المحتلّة، ودفْع كلّ منها إلى تكوين هوية خاصة بها وقضايا مقصورة عليها، غير تلك الجامعة للفلسطينيين، لم تُعطِ النتائج المرجوّة منها، وهو ما أظهرته معركة «سيف القدس»، حيث تجلّى التفاعل ما بين ساحات الضفة والقدس والداخل بأفضل صوره، ليبقى حيّاً مذّاك، وإنْ تَعرّض لمدّ وجزْر. أيضاً، تأكّد أن هرولة بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع مع العدو، حتى على مستويات لم يكن الأخير ساعياً إليها، إنّما تساعد إسرائيل على الاستمرار في إنكار الواقع، بل وتُغريها بتعميق هذا الإنكار، ما يعني أن تلك الأنظمة باتت شريكة مباشرة في مظلوميّة الفلسطينيين التاريخية.
ما حدث بالأمس في مخيّم جنين لا يُقاس بعدد الشهداء والجرحى مقابل الخسائر الإسرائيلية البشرية وغير البشرية، بل بتموضعه في مسار القضية الفلسطينية برمّتها. ذلك أن الاعتداء نفسه، وما قد يتبعه، وتوثّب الفلسطينيين الدائم للتصدّي، وأيضاً الحصار العسكري المستمرّ الذي يستهلك قدرات كبرى لدى جيش العدو، إنما هي تظهير لواقع معضلة «احتلالية»، باتت معها إسرائيل فاقدةً لأيّ استراتيجيات إلّا القمع المباشر، وهو ما لا تزال تصرّ على إنكاره وتسعى إلى تطويقه. يُضاف إلى ما تَقدّم أن مواجهة جنين الأحدث تثبت أن القضية الفلسطينية ما زالت حيّة، وأن الضفة، التي عُدّت سابقاً الساحة المُدجَّنة قياساً بغيرها من الساحات، تبْقى هي الخاصرة التي تخشاها دولة الاحتلال وتدفعها إلى الاستنفار في وجهها، ولو تَطلّب هذا إشغال جيشها عن جبهات أخرى أكثر إلحاحاً، ومتقدّمة في منسوب التهديد بأشواط عمّا تمثّله الضفة.