الخرطوم | كشفت التصريحات الأخيرة المتضاربة الصادرة عن وجوه المكوّن العسكري، عدم جدّيته في الالتزام بما تعهّد به القائد الأعلى للقوات المسلّحة، عبد الفتاح البرهان، في الرابع من تموز الماضي، من ترْك الحياة السياسية وإفساح المجال أمام المدنيين لتشكيل حكومتهم. إذ بعدما خرج قائد ميليشيات «الدعم السريع» ونائب رئيس «مجلس السيادة»، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، ناقلاً عن رئيس المجلس، البرهان، تجديده التزامه بالتعهّد المذكور، وتأكيده أن اجتماع الوساطة الرباعية، المكوَّنة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، بمشاركة البرهان ونائبه، أقرّ بشكل قاطع تولّي المدنيين مهمة اختيار رئيسَي مجلس السيادة ومجلس الوزراء، اتّضح لاحقاً أن ما تقدّمت به «الرباعية» من مقترحات لم يحظَ بقبول الجيش. فلم تكد تمرّ ساعات على تصريح «حميدتي»، حتى أعلن مستشار قائد الجيش، الطاهر أبوهاجة، أن المؤسّسة العسكرية لن تُسلّم السلطة إلّا لحكومة متوافَق عليها من قِبَل كلّ السودانيين أو حكومة منتخَبة. وربط أبو هاجة التزام العسكر بمغادرة العملية السياسية بإدارة الفترة الانتقالية من قِبَل حكومة كفاءات بعيداً عن المحاصصات الحزبية، مشدّداً على أنه لا مجال للحُكم بـ«وضع اليد والفهلوة السياسية»، مضيفاً إن «القوات المسلّحة مسؤولة بموجب القانون والدستور عن حماية أمن البلاد واستقرارها، ولن تُسلّم الأمانة إلّا لِمَن يختاره الشعب».وجاءت تصريحات مستشار البرهان ردّاً على كلام دقلو من جهة، وعلى التسريبات التي خرجت من اجتماع الآلية الرباعية، متحدّثةً عن عودة «ائتلاف الحرية والتغيير» وتشكيله حكومة مدنية لإدارة الفترة الانتقالية، من جهة ثانية. وقد انعقد هذا الاجتماع لأوّل مرّة بحضور الإمارات، فيما بدا لافتاً أنه أعقب عودة قائد «الدعم السريع» من زيارة غير معلَنة لأبو ظبي الأسبوع الماضي. وبحسب مراقبين، فإن «حميدتي» يُبدي جدّية أكبر في مسألة تسليم السلطة للمدنيين، ممّا تُظهره مكوّنات المؤسّسة العسكرية الأخرى. ولعلّ دافعه في ذلك هو أجندة الإمارات التي اكتشفت أخيراً أن انقلاب قائد الجيش ما هو إلّا عودة للإخوان المسلمين بواجهة مخصتلفة. ويرى المحلّل السياسي، عثمان فضل الله، في حديث إلى «الأخبار»، في هذا الإطار، أن اللافت هو التغيّر الجذري في موقف دقلو الذي بات الأقرب إلى تسليم السلطة للمدنيين، معتبراً أن «خطورة التحوّل في المواقف أنها ولّدت خلافاً عسكرياً عسكرياً لا مدنياً عسكرياً، ما يعني أن الحسم سيكون بواسطة السلاح». وكان البرهان قد سعى، منذ اليوم الأول للانقلاب، إلى تمكين كوادر حزب «المؤتمر الوطني» المنحلّ داخل مؤسّسات الدولة المسيطِرة على أهمّ موارد البلد الاقتصادية، وخاصة الذهب. وبحسب فضل الله، فإن «من الواضح أن البرهان لا يملك قراره، وأنه وكيل للإسلاميين ينفّذ أجندتهم على مستوى الجيش والسلطة، ولذلك كانت جلّ قراراته متشدّدة تجاه الثورة والثوار، وبدت تصريحاته متناقضة».
يسود اعتقاد بأنه يجري الإعداد لتسوية سياسية بين القوى السياسية والحزبية المناهِضة للانقلاب والعسكريين


ويسود اعتقاد بأنه يجري الإعداد لتسوية سياسية بين القوى السياسية والحزبية المناهِضة للانقلاب، والعسكريين، بوساطة اللجنة الرباعية، بما يضمن للبرهان خروجاً آمناً من المشهد وإفلاتاً من المحاسبة التي مثّلت أحد أبرز مطالب القوى «الثورية». وبحسب التسريبات، فإن من أهمّ المقترحات المطروحة على طاولة «الرباعية»، منْح حق اختيار رئيسَي «مجلس السيادة» والوزراء للمدنيين، وتكوين مجلس أعلى للدفاع والأمن مهمّته الاضطلاع بمهام الذود عن مكتسبات البلاد، علاوة على تشكيل هيئة تنسيقية بين المدنيين والعسكريين مهمّتها الفصل في القضايا الخلافية. وجاء تداول هذه المقترحات بعدما طرحت اللجنة التسييرية لنقابة المحامين مسودة إعلان دستوري على القوى السياسية والجهات الإقليمية والدولية، ومن بينها الاتحاد الأوروبي وعدد من سفراء الدول العربية المعتمدين لدى الخرطوم. وإذ رحّب نائب رئيس «مجلس السيادة» بالإعلان، فقد ناهضتْه مجموعة الحركات المسلّحة المُوقِّعة على «اتفاق جوبا». ويفسّر فضل الله هذا الموقف بأن «تلك الحركات تُعدّ الخاسر الأكبر بعد الإطاحة بالحكومة المدنية، حيث فقدت البوصلة عقب فقدانها حلفاءها التاريخيين الذين عملت معهم على إسقاط حُكم الإنقاذ، وخسرت سياسياً جرّاء تمسّكها بتنفيذ بند وحيد من بنود الاتفاق وهو تقاسم السلطة».