أعاد استشهاد المطارَد جميل العموري في حزيران 2021، برفقة اثنَين من عناصر جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للسلطة الفلسطينية، ترتيب المشهد المقاوم في الضفة الغربية على نحو مفاجئ. ابن مخيّم جنين، والذي لم يتجاوز عمره الـ25 ربيعاً، كان قد نفّذ في أثناء معركة «سيف القدس» عدّة عمليات إطلاق نار، باكورتها وقعت في كانون الثاني 2020. يومها، أطلق العموري، مع مجموعته التي لم يتجاوز تعدادها أصابع الكفّ الواحدة، النار على جنود الاحتلال الذين كانوا يهدمون منزل الأسير أحمد القنبع في مدينة جنين. وعقب ذلك، واصل الشاب مشاغلة الاحتلال بتنفيذ عمليات متفرّقة على الحواجز وضدّ القوّات التي كانت تقتحم جنين في السابق بهدوء لا يعكّر صفوَه إلّا رشق الحجارة. تجاوَز العموري حدود الشخصية العسكرية ذات الإرادة والطموح والمبادرة، وأدّى أدواراً أكثر أهمّية. امتلك الشاب شخصية اجتماعية محبوبة، وكاريزما قيادية ملهِمة، وخطّ شكل الحراك المقاوم الذي يشتهيه بكلمات ألقاها في جمْع من مقاتلي «سرايا القدس» عقب معركة «سيف القدس»: «إلى شبابنا الذين تحملون السلاح في الضفّة، لا تُطلِقوا رصاصكم في الهواء، إن هذا السلاح أمانة في أعناقكم، وواجب ديني وشرعي أن يتوجّه إلى الاحتلال». هكذا، تَحوّل الشاب الهادئ ذو الوجه البشوش إلى رمز وأيقونة، أجمعت عليها قلوب الشبان الثائرين في مختلف مدن الضفة، وقد رسمت تفاصيل استشهاده إلى جانب الملازم أدهم ياسر توفيق عليوي (23 عاماً) من نابلس، والنقيب تيسير محمود عثمان عيسة (33 عاماً)، الإطار الوحدوي الذي سيتشكّل بتناغم يكسر الجمود بين مكوّنات حركة «فتح» وحتى بعض عناصر الأجهزة الأمنية في جنين ونابلس، وبين «السرايا». ثمّ أكملت عملية الهروب من سجن جلبوع، «نفق الحرية»، تحويل الإطار النظري إلى حالة قائمة، لتنطلق «كتيبة جنين»، التي ضمّت أيضاً مقاتلي «فتح» تحت اسم جامع هو «كتيبة جنين - حزام النار».
ثُنائية الاشتباك
ضربت عملية «السور الواقي» عام 2002، البُنى التحتية لفصائل المقاومة في الضفة. وحتى عام 2018، كان ملاحَظاً أن العمل العسكري المنظَّم والمستدام، قد تقلَّص إلى حدود الصفر، خلال تلك السنوات الطويلة. صحيح أن عدداً من الخلايا المسلّحة التابعة لـ«كتائب القسام» كسرت حالة الجمود، بتنفيذ عمليات أوقعت عدداً من القتلى، غير أن القبضة الأمنية الإسرائيلية استطاعت دائماً احتواء الموقف سريعاً. وبالتزامن مع ذلك، عما الجنرال الأميركي، كيث دايتون، على تعميق الشرخ بين الأجهزة الأمنية التي كانت لبعض قياداتها مِن مِثل ضابط المخابرات العامّة رائد الكرمي، ومدرّب قوات الأمن الوطني يوسف ريحان «أبو جندل»، البصمة الواضحة في الانتفاضة الثانية. استغلّ دايتون أحداث الاقتتال الداخلي في غزة عام 2007، واشتغل على بناء أجهزة أمنية «مهنية»، تضع نصْب أعينها المحافظة على الهدوء الأمني الذي من الممكن أن يخرقه تشكيل خلايا عسكرية تابعة لـ«حماس» بوصْف الأخيرة متّهمةً دائماً بالتخطيط للانقلاب على السلطة في الضفة، وإعادة سيناريو طردها من غزة. غير أن جهود الأجهزة الأمنية تجاوَزت «كتائب القسام» لتُطاول فصائل المقاومة كافة، ومن بينها «الجهاد الإسلامي». وفي هذا السياق، يقول مصدر مطّلع في «الجهاد» لـ«الأخبار»: «كسر العموري الحاجز النفسي بين عناصر المقاومة وضبّاط الأجهزة الأمنية، وقد أعاد استشهاده إلى جانب شابَّين من جهاز الاستخبارات العسكرية التابعة للسلطة، نظْم العلاقة مع هؤلاء، الذين وجدوا أنفسهم طوال سنوات منبوذين وطنياً، فيما يؤدّون اليوم دوراً خفيّاً ومهمّاً في رفد فصائل المقاومة بالمعلومات التي يتحصّلون عليها من بيئة عملهم، عن نيّة الاحتلال تنفيذ عملية اقتحام أو عن تسلُّل قوات خاصة في منطقة ما». ويضيف المصدر نفسه: «شكّل عناصر فتح والأجهزة الأمنية في مخيم جنين تحديداً ثُنائية قلبت المشهد، إذ يحمي هؤلاء ظهر المقاومين، فضلاً عن أنهم يشاركون إلى جانب كتيبة جنين في التصدّي للاقتحامات وتنفيذ عمليات إطلاق النار».
غادرت الظاهرة التي كانت محصورة في جنين، المخيّم إلى مساحات جديدة


الكتائب تتوسّع
غادرت الظاهرة التي كانت محصورة في جنين، المخيّم إلى مساحات جديدة. ففي نهاية أيار 2022، أُعلن عن تأسيس «كتيبة نابلس». وبعد أقلّ من شهر واحد، تمدّدت ظاهرة الكتائب إلى طولكرم. وبعد قرابة شهر ونصف الشهر، أعلنت «السرايا»، نهاية تموز الماضي، انطلاق «كتيبة طوباس». هذه الكتائب لا تمثّل، وفق ما يقوله الباحث السياسي إسماعيل محمد، الشكل المشتهَى لطبيعة العمل العسكري في الضفة، بقدْر ما هي نقطة ارتكاز يُعمد إليها في المحافظة على ديمومته. ويعتقد محمد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «مجرّد انطلاق عمل شبه منظَّم في بيئة مقطَّعة الأوصال بالمئات من الحواجز، و ساقطة أمنياً مثل الضفة، هو إنجاز بحدّ عينه»، مضيفاً أنه على رغم «انحصار هذا العمل بعمليات المشاغلة وإطلاق النار، فإنها تؤسّس لحالة توتير غير محسوبة الآثار والنتائج، فبالنسبة للاحتلال، أيّ تقويض لحالة الهدوء التي استمرّت لسنوات، يمثّل إعادة لدفق الدماء في خلايا جديدة، من الممكن أن تعمل بصمت وهدوء شديد لتنفيذ عمليات نوعية تُفاقم من خسائر الجيش، وتُقوّض مشاريع تذويب الوجود الفلسطيني، عبر تدجين الأجيال وحصْر اهتمامها بالهموم الذاتية الخاصة، من دون أن تؤدّي أيّ دور وطني، بينما يلتهم الاحتلال ما تبقّى من هويّة وجغرافيا في الضفة». ويَعتبر أن «الاحتلال لا يخشى من الذين يحملون السلاح في حيّز جغرافي مراقَب ومحصور، بقدْر خشيته من الذين لم يحملوه بعد، ويفكّرون في طريقة أكثر جدوى لفعلهم، هؤلاء يضربون ضربتهم خارج الحسابات الأمنية للعدو، في مساحات آمنة من وجهة نظره، وتواقيت تتجاوز استعداداته".

السلوك الإسرائيلي
يمكن القول إن ما حدث خلال عام وثلاثة أشهر شكّل مفاجأة للمؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، التي انحصر تقديرها في بداية الأمر، بأن الظاهرة لن تتعدّى تشكيل عدّة زُمر عسكرية عديمة الخبرة ومحدودة التمويل، يمكن اجتثاثها قبل أن تُشكّل فارقاً في المعادلة القائمة. غير أن تمدُّد الفعل المقاوم إلى مساحات جديدة، تزامَن مع ظهور أيقونات ذات طابع وطني متجاوِز للحسابات الحزبية، حيث أعاد اغتيال إبراهيم النابلسي إنعاش بُنية العمل المقاوم، وانخرطت عقب مشهد وداعه الملهِم، أعداد جديدة من الشبّان في تشكيلات المقاومة، فضلاً عن ظهور حالات عسكرية من رَحِم الأحزاب الكبيرة، وزيادة حدّة العمل الذي يحمل في شكله الظاهر طابعاً فردياً. وهنا، يعلّق «معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي» في تل أبيب على عملية الأغوار التي وقعت مطلع الأسبوع الجاري، بالقول: «هي نجاح آخر للمقاومة التي تُشكّل روحَها حركة الجهاد الإسلامي، لقد نجحت الجهاد في تحويل شمال الضفة إلى بؤرة مقاومة، وموّلت مجموعات لا تتبع لها تنظيمياً، كما نجحت في تهريب السلاح والأموال في الفترة الأخيرة، ومن الخطأ القول إن السبب هو الحالة الاقتصادية، إنها روح الشباب التي تتشكّل على طريق المواجهة، وتُحاول الحركة اليوم نقل بؤر المواجهة من مكان إلى آخر في الضفة».
وفي مواجهة ذلك، عمدت قوات الاحتلال إلى مضاعَفة الضغط على الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، من أجل حمْلها على تكثيف جهودها في إجهاض الحالة الآخذة بالتمدّد. كما نفّذت عمليات اعتقال احترازية طاولت حتى اللحظة ما لا يقلّ عن 1300 شابّ في مختلف مدن الضفّة، يرى فيها مصدر ميداني في جنين «تعبيراً عن حالة الإفلاس المعلوماتي». إذ يبيّن المصدر أن «اعتقال هذا العدد الكبير يؤكّد أن الاحتلال يفتقر إلى المعلومة، التي يمكن أن يستند إليها في توجيه ضربة جراحية ودقيقة إلى خطوط التمويل والتسليح، معظم الاعتقالات تمّت على الاشتباه، وأكثر ضحاياها لا لائحة اتّهام تُدينهم وجرى اعتقالهم إدارياً، ما يعني أن العدو يقف عاجزاً أمام تمدّد الظاهرة». وإذ تُراهن المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية على إبقاء الحالة العسكرية محصورة في مناطق شمال الضفة، واستمرار دَورانها في دائرة المشاغلة ذاتها، من دون أن تتطوَّر إلى عمليات مدروسة ومنظَّمة، ما يسهم بالتالي في إشاعة حالة من الإحباط، فضلاً عن أثر العمل على زرع بذور الخلاف والفتنة بين مكوّناتها، فإن الاختراق الأكبر يتمثّل، بحسب المصدر الذي تحدّث إلى «الأخبار»، في أن «يتمدّد العمل إلى مدن بيت لحم ورام الله والخليل، إذ سيسهم ذلك في زيادة الإشغال، ما سيخفّف الضغط عن مدن الشمال جنين ونابلس وطولكرم، وسيسمح بعمل خلايا الظلّ بشكل أكثر فاعلية وتأثيراً».