رام الله | اختار العدو الصهيوني الذكرى السنوية الأولى لعملية «نفق الحرية»، لشنّ أكبر هجوم عسكري منذ أشهر في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، استهدف هدم منزل الشهيد رعد حازم، في محاولة لترميم صورة الردع المتآكلة لقوّاته، ومحْو الوصْمة التي لحقت بأجهزته الأمنية والاستخبارية بسبب عملية الهروب من سجن جلبوع. وبمشاركة أكثر من 100 دورية عسكرية ومئات الجنود، استعرض الاحتلال قوّته في جنين، مسقط رأس أبطال «نفق الحرية» - الذين كانت لهم فيها صولات وجولات في الفعل المقاوم -، والتي أبدت استعدادها منذ لحظة تَحرُّرهم كي تكون الحضن الحامي لهم في حال وصلوا إليها. ولربّما يمكن القول إن واقعة «جلبوع»، وقَبْلها معركة «سيف القدس»، أسّستا للتحوُّل الكبير في العمل المقاوم، ليس في جنين فقط وإنّما في الضفة الغربية عموماً، حيث برزت مذّاك «كتيبة جنين»، وبدأ رصاص اشتباكها يدوّي ويمتدّ. وبهذا المعنى، رأت حركة «الجهاد الإسلامي»، بالمناسبة، أن «عملية نفق الحرية نجحت في إيصال رسالة الأسرى، وصنعت تحوُّلاً هامّاً في الصراع مع العدو الصهيوني»، معتبرةً أن «صعود المقاومة وقوّة فعلها في الضفة ما هما إلّا شاهدان ساطعان على عظيم الأثر الذي أحدثه الأسرى الستّة، أبطال كتيبة جنين، التي صارت فيما بعد عنواناً للمقاومة يمتدّ ويتّسع من جنين إلى نابلس وطولكرم وطوباس». وشكّل منزل الشهيد رعد حازم، الذي نفّذ عملية فدائية في تل أبيب قَتل فيها 3 مستوطنين في 7 نيسان الماضي، هدفاً لاجتياح مخيّم جنين ليل الثلاثاء - الأربعاء، بعد 5 أشهر من الفشل في هدم المنزل بسبب قوّة المقاومة هناك. ومع منتصف الليل، دفع جيش الاحتلال بمئات الجنود لاقتحام المدينة من عدّة محاور فجراً، مصحوبين بأكثر من 100 دورية وجرّافة عسكرية، فيما نُشر القنّاصة على أسطح البنايات المرتفعة. وفي المقابل، كان المقاوِمون والأهالي على أُهبة الاستعداد، وواجهوا بما ملكوه من رصاص وأكواع متفجّرة وزجاجات حارقة، بينما كان جنود العدو يخْلون البناية السكنية التي تقع فيها شقّة حازم من سكّانها، وينزلونهم إلى الشارع لاتّخاذهم دروعاً بشرية أثناء عملية التفجير، وسط تحليق طائرات الاحتلال المسيّرة في سماء مخيم جنين، بالتزامن مع قطْع التيار الكهربائي عنه. وتعمّد العدو، خلال المواجهات، إصابة أكبر عدد ممكن من الشبان، من خلال استهداف المناطق العلوية من أجسادهم، ليُسفر الاشتباك عن استشهاد الشاب محمد سباعنة، وإصابة قرابة 16 آخرين بينهم واحد بحال الخطر، وفتاةُ أصيبت بالفكّ، وشابّان في ساقَيهما، وثالث في الرأس. وبعد ساعات، عاشت المدينة حداداً عاماً، بالتزامن مع تشييع سباعنة، والذي شارك فيه آلاف الفلسطينيين، مردّدين هتافات تدعو إلى تصعيد المقاومة في الضفة.
لا يزال مخيّم جنين الهدف الأوّل للتحريض الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً وإعلامياً


وتبدو هذه العملية أقرب إلى محاولة لتعويض الفشل الإسرائيلي في ملاحقة واعتقال فتحي خازم (أبو رعد)، الذي تُطارده قوات الاحتلال منذ 5 أشهر، ويرفض تسليم نفسه. وتَحوّل والد الشهيد رعد، منذ عملية ابنه، إلى مطلوب للعدو، وفي الوقت نفسه المُحرِّض الأوّل على القتال والمقاومة في المخيّم، وحشد الرأي العام وتعبئة المواطنين، من خلال خطاباته في مهرجانات تأبين الشهداء. وعقّب «أبو رعد» على هدم منزل نجله بالقول: «لله دَرُّكم يا أهل فلسطين وأهل جنين، ما أجسركم! مِن أيّ طينة خُلقتم أيّها الأبطال؟ تقبَّل الله شهداءنا، وشفى الله جرحانا وألبسهم ثوب الصحّة والعافية، وفكّ الله قيْد أسرانا، وأفرِغ اللهم على قلوب أمّهاتهم وآبائهم صبراً جميلاً. وأمّا هدم البيت فإنه جهد المقلّ، وأسأل الله أن يتقبّل منّا وأن يغفر لنا تقصيرنا (...)». وليست العملية الأخيرة معزولة عن تصاعُد موجة المقاومة في الضفة، والتي تُثبت في كلّ مرة فشل منظومات الاحتلال الاستخبارية، خصوصاً في ظلّ امتداد الظاهرة من جنين إلى بقيّة المدن والبلدات، وآخرها الأغوار. وحفّز هذا الواقع تقديرات لدى الجهات الأمنية الإسرائيلية المعنيّة، بأن الضفة تعيش حالة غليان سيرافقها تنفيذ عمليات مختلفة، يصعب التكهُّن بمكانها وتوقيتها وطريقة تنفيذها، وهو ما دفع رئيس وزراء الاحتلال إلى الدعوة لعقْد جلسة تقييم أمني يوم الخميس، بمشاركة قادة المؤسّسة الأمنية.
ولا يزال مخيّم جنين الهدف الأوّل للتحريض الإسرائيلي سياسياً وعسكرياً وإعلامياً، باعتباره بوصلة الأحداث ومُحرِّكها، ليس في الضفة فقط، وإنّما في قطاع غزة كذلك، وربّما خارج حدود فلسطين المحتلة. ولعلّ تخبُّط الاحتلال وتردُّده في اجتياح المخيّم لاقتلاع المقاومة منه، على رغم تهديداته المتعدّدة بذلك، يدلّان على أن هذه البقعة قادرة على إشعال الأوضاع بطريقة يَصعب حصرها. وقد خَبِر العدو، قبل أسابيع، الأثر الذي يمكن أن يُحدثه مخيّم جنين على الوضع الأمني، حين عاش استنفاراً لعدّة أيام في منطقة غلاف غزة، خشية من ردّ المقاومة على اعتقال القيادي في «الجهاد الإسلامي»، بسام السعدي. كما لا يَغفل الاحتلال عن الأثر الذي لعبه المخيّم في تصدير المقاومة المسلّحة إلى بقيّة مناطق شمال الضفة ووسطها حتى الآن. وإذا كان مخيّم جنين قد عاش، قبل ساعات، ليلة من ليالي معركة 2002، فإنه يدرك أن هذه المواجهة هي جزء من المعركة التي يخوضها وسيواصلها، وتُبقي الحساب بينه وبين العدو مفتوحاً على مصراعَيه، في انتظار جولة أخرى لن يتأخّر ميعادها.
ويرى القيادي في «الجهاد الإسلامي»، الأسير المحرَّر ماهر الأخرس، في حديث إلى «الأخبار»، أن «العدو يريد أن يقول من خلال عمليته الأخيرة إن الوضع الأمني في الضفة الغربية تحت سيطرته بالكامل، وإنه يدخل متى يشاء ويخرج متى يشاء من مدن الضفة. كما يريد إرسال رسالة إلى مستوطِنيه بأنه قادر على القيام بأيّ فعل، لكن ما يجري على الأرض هو عكْس ذلك، فمع كلّ عملية اجتياح أو توغّل، يزداد المقاومون ثباتاً وعدداً وقدرة على المواجهة». ويؤكد الأخرس أن «قيام الاحتلال بهدم منزل رعد حازم، ومحاولته قتل أكبر عدد من الشبّان، لن يثني المقاومين وأبناء شعبنا عن مواجهته، فسياسة هدم المنازل والقتل المتعمَّد ثبت فشلها في قتل المقاومة والمواجهة، وهي لن تُحقّق له ولمستوطِنيه الأمن والأمان في الضفة». ويَعتبر أن «تزامُن اقتحام مخيم جنين مع الذكرى السنوية الأولى لانتصار نفق الحرية، يشير إلى أن الاحتلال يدرس كلّ شيء، ويريد إيصال رسائل، وكأنه يقول لنا: في هذا اليوم كان لكم الانتصار، ونحن نعود في نفس اليوم إلى جنين معقل هؤلاء الرجال الذين انتصروا علينا، لنقتل ونهدم فيها كيفما نشاء»، مضيفاً أن «اختيار هذا التوقيت يدلّ على طبيعة الاحتلال الذي يسعى إلى هدفه الأول وهو قتل المقاومة وروحها».