صيدا | في عام 1988، خرج ياسر نصرات المؤذن إلى لبنان، لينضم إلى إحدى الفصائل الفلسطينية، بهدف تنفيذ عمل فدائي داخل الأرض المحتلة. عانى المؤذن ما عاناه في الأسر وخارجه. في الأسر، أصابته أمراض الكلى بسبب سياسة الإهمال الطبي المتعمّد، ومع الوقت، بُترت قدمه اليمنى واليسرى. ومع ذلك، ظل جسده مثل إرادته قائماً. أمعاؤه الخاوية مكّنته من نيل حقوقه الطبيعية، وإرادته أعطته القدرة والإمكانية لتحقيق ما أراده علمياً، ليكون اليوم، ومنذ خرج من الأسر، مناضلاً من أجل رفاقه الأسرى، ومن أجل فلسطين التي أمضى ربيع عمره أسيراً من أجلها.
يوم تنفيذ العملية
انضم إلى «جبهة التحرير الفلسطينية». كان هدف العملية المشتركة، التي خرج لتنفيذها مع رفاق من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، مستعمرة المنارة، إلا أن أمرهم كُشف في الطريق، قبل الوصول إلى المستعمرة بأمتار قليلة. «تعرّضت مجموعتنا لكمين إسرائيلي، بمشاركة قوات جوية وبحرية، وتمّت محاصرتنا، فانتهت العملية قبل تنفيذها باستشهاد بعض الرفاق، وإصابتي بقدمي، وطُلب منا عبر مكبرات الصوت تسليم أنفسنا، وتم أسرنا».

أسر المؤذن، المولود في سوريا عام 1971، وبدأت رحلته مع الأسرى في زنازين الصرفند، حيث بدأت التحقيقات. «يستقبلونك وهم يحاولون إرهابك وتخويفك، علماً أن عمري في حينها كان بحدود 16 سنة، وتجربتي في الحياة متواضعة، جاءني أحد المحققين يوماً، قائلاً: عائلتك كلها ماتت جراء حريق، بهدف الضغط عليّ والاستفادة قدر الإمكان من المعلومات التي أملكها حول الرفاق والجهة التي أنتمي إليها. يمارس الاحتلال أقذر أساليبه عبر محقّقيه، كي ينهار الأسير ويستسلم له. كنا نعرف أنه علينا الحرص على عدم تغيير الإفادة، ومع ذلك فالتهم الموجهة كانت جاهزة، كالتسلل، وحمل السلاح دون رخصة. هل يمكن تخيل أنه على الإنسان أخذ إذن للدخول إلى بلده!».
لم تكن تجربة الأسر سهلة، كانت غنية بالتحديات والصعوبات، «بعد ستة أشهر، تم نقلنا إلى مركز توقيف الجلمة، وهو مركز توقيف مؤقت يضم، إضافة إلى الأسرى الفلسطينيين، مساجين الجنائيات اليهود والفلسطينيين من الداخل. ذات يوم، تلقيت أول زيارة في سجن الجلمة، فصدمت، وسألت نفسي عن هوية الزائر، خاصة أني لا أعرف أحداً، رفضت الخروج، لكن بعد إلحاح الرفاق، خرجت ووجدت امرأة بانتظاري، توجهت إليها عابساً متسائلاً: من أنت؟ فردت: أنا أم جبر وشاح، سمير القنطار بسلم عليك. أضاءت هذه الزيارة عتمة الأسر، ورفعت معنوياتي وأعطتني الأمل».
لم يحاكم ياسر المؤذن بسرعة، كعادة الاحتلال، جرب القضاء الإسرائيلي المماطلة، «أثناء تواجدي في مركز تحقيق الجلمة ما يقرب من ثلاثة أشهر كنت قد ذهبت إلى محكمة عكا، جددوا توقيفي، وتم إرسال ملفي إلى محكمة اللد العسكرية، وهناك حُكم عليَّ 25 عاماً، بتهمة التسلل غير الشرعي وحمل سلاح دون رخصة والتسبب بقتل المدنيين. وقعت مصادمة بيني وبين القاضي، وأكدت على عدم اعترافي بقرارات هذه المحكمة، ورفضي لهذه الإجراءات التعسفية. نقلت إلى معتقل عسقلان، المعروف بأنه يضم أخطر الأسرى حسب الاحتلال، المحكومين بالمؤبدات».

المسبحة والمواجهة الأولى مع السجان
صنع ياسر سبحةً من نواة الزيتون، كان يجمعها من بقايا فطوره، ليصنعها باستخدام خيطان المنشفة «بهدف التسلية وتمضية الوقت وتغيير تفكيري بأني عاجز عن الخروج من الزنزانة، كنت أصنع السبحة. وبينما كنت أتحدث مع الرفاق عنها على مسمع عنصر من السجانين، فدخل وطلب مني تسليمه إياها؛ أنكرت وجودها عدة مرات، علماً بأني أخفيتها داخل مفصلة باب الزنزانة. بعد عدة أيام، بدأ السجان بمفاوضتي عليها، فقلت لهم، السبحة مقابل السجائر، وهنا تغيرت المعادلة، فبدل الحصول على معلومات عن العمل العسكري وعن الرفاق، تحول النقاش إلى كيفية صناعة هذه السبحة، وهل هي موجودة أم لا، ومكان وجودها. بعد هذه المفاوضات، انتهت أول جولة من جولات التحدي مع المحتل، بالاعتراف مقابل حصولي على أربع سجائر في الوقت الذي أريده».

الإنجاز العلمي في الأسر
يذكر الباحث عبد الناصر فروانة «تمكّن الأسرى، وعبر المطالبات المستمرة والاحتجاجات المتكررة والإضرابات عن الطعام، من انتزاع حقهم في امتلاك القلم والدفتر وأدوات القرطاسية وإدخال الكتب التعليمية، وتبعها انتزاع حقهم في الاجتماعات بين جدران غرفهم وما تُسمى الجلسات الثقافية والتنظيمية والتعليمية» («كيف حوّل الأسرى الفلسطينيون السجون إلى مدارس»، 2022/7/27، موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية). الأسير المحرر ياسر المؤذن، تمكن من الاستفادة من إنجازات الأسرى هذه، يقول: «دخلت المعتقل وأنا في ريعان الشباب، وأمامي خيارات عدة في هذه التجربة، تعرفت على رفاق من ذوي الخبرة الفكرية والعلمية من كتّاب ومهنيين، فدفعني لقائي بهم من تحقيق إنجاز على المستوى التعليمي، فدرست البكالوريا ونلت الشهادة الثانوية. المعتقل مدرسة حقيقية لكل أسير، حيث كان السجان يعتقد أن الأسير عندما يدخل إلى السجن سيخرج منه نادماً على التفكير بالنضال، ومهمشاً، ولا يمثل شيئاً بالنسبة إلى شعبه وقضيته. لكن العكس تماماً هو ما يحصل، فالمدرسة الداخلية كانت قوية ومنهجية، أعطتنا إرادة وثباتاً وطموحاً، والاستمرارية في التعلم. انطلقت لاحقاً بمشروع تعلم اللغة العبرية، وأصبحت مدرساً للغة، وسجلت في الجامعة العبرية المفتوحة، الأمر الذي جعلني أعيش خارج نطاق الأسر، كوني أواظب على الدراسة وتحصيل العلم. فتعلم لغة العدو ساعدني على فهم منهجيته في إدارة الصراع». كلام ياسر دفعنا إلى سؤاله عن ظروف السجن، هل هي ملائمة للدراسة والتحصيل العلمي، يجيب: «بالطبع لا، فهذا الإنجاز العلمي يتم تحقيقه عبر نضالات عدة، يذهب ضحيتها شهداء، ولا سيّما ضمن الإضرابات عن الطعام».

تحدّي الإضراب عن الطعام
الإضرابات المفتوحة عن الطعام تشكّل سلاحاً، يستخدمه الأسرى لتحقيق انتصارات حقيقية على السجان الإسرائيلي، وياسر المؤذن مثله مثل بقية الأسرى، خاض إضرابات عن الطعام مع البقية «خلال فترة وجودي في الأسر، خضت ثلاثة إضرابات رئيسية عدا عن الإضرابات اليومية. هذه الإضرابات، تحدّد علاقتنا مع السجان، فهذه الخطوات تتم بتراتبية، عن طريق لجان منتخبة من كل الأسرى، مهمتها قيادة السجن خلال مرحلة الاعتقال، فمن كل فصيل ينتخب مندوب ليمثل فصيله داخل اللجنة الوطنية العليا في السجون، هذه اللجنة مسؤولة عن اتخاذ القرارات المصيرية بالنسبة إلى الأسرى، وإعداد الوثائق المطلبية، وتحديد شروط وخطة الإضراب وأخذ الخطوات التصاعدية الإضافية في حال عدم الاستجابة إلى مطالب الأسرى».

الوضع الصحي والإهمال الطبي المتعمّد
في الأشهر الأخيرة، نتابع قضية الأسير خليل عواودة، وقبل أيام نشرت مواقع إعلامية عدة صور له في المستشفى؛ نحل جسده بسبب الإضراب المفتوح عن الطعام لنيل الإفراج عنه، يؤكد المؤذن أن فكرة العلاج الطبي الذي تدّعيه إسرائيل ليست سوى كذبة «بعد تجربتي الخاصة، اكتشفت أن هذه العيادات أو المستشفيات، هي وسيلة لمعاقبة الأسرى. ففي عام 1996، بدأت أعاني من مشكلات في المسالك البولية، تردّدت على العيادة يومياً بشكوى ارتفاع الحرارة والألم، فكان طبيب السجن لا يعطيني سوى حبة بنادول. عانيت لفترة طويلة، حتى ساء وضعي، وأصَرّ الطبيب بأني لا أشكو من أي مرض، في الوقت الذي كنت فيه قد دخلت في مرحلة الفشل الكلوي، فأعطاني «سيروم ملحي» بكميات كبيرة لمدة ثلاثة أيام متتالية، زاد فيها وزني 25 كيلوغراماً وتورّم جسدي من المياه الزائدة. وعلى الرغم من مناشدة ممثل المعتقل والرفاق، إدارة السجن بضرورة نقلي إلى المستشفى نظراً لخطورة وضعي الصحي، بقي الطبيب على إصراره، لكن تهديد الرفاق بالإضراب العام، دفع الإدارة إلى نقلي للمستشفى، وبعد الخضوع للفحص المخبري، تبين ضرورة البدء بجلسات غسيل الكلى. فتأكدت حينها بأن الطبيب المعالج الذي يساومك على حياتك ويخيّرك بفك الإضراب أو تلقي العلاج، ما هو سوى جلاد وليس طبيباً».
يؤكد المؤذن أن تشخيص مشكلته الصحية التي يعيش معها حتى اليوم، كانت بداية لمرحلة جديدة في حياته بعد نقله من سجن عسقلان إلى مستشفى سجن الرملة. «جعلتني حملات التضامن من قبل الرفاق في الداخل المحتل والجولان المحتل والمنظمات الدولية أكثر صلابة وقوة، ولا سيّما في طبيعة علاقتي مع السجان الذي أيقن أن هناك مؤسسات دولية تتابع وتراقب وضعي. ففرضت عليهم موضوع الاتصال الهاتفي بعائلتي في دمشق، بعدما نفذت إضراباً عن جلسات غسيل الكلى. لاحقاً، بدأت التدخلات الدولية من أجل الإفراج عني من قبل مؤسسات حقوقية فرنسية نظراً إلى سوء وضعي الصحي، وبالفعل تم الإفراج عني ضمن اتفاق واي ريفر مع السلطة الفلسطينية عام 1999».
اليوم، مع إعلان الأسرى تصعيد خطواتهم ضد السجان الإسرائيلي، يتذكّر المؤذن نفسه، وقد كان في صفوف الحركة الأسيرة «التي أخرجت أجيالاً جديدة من النضال الفلسطيني، عكس ما أرادها الاحتلال أن تكون، حركة مهمّشة، فهم قادة في أماكن وجودهم، كل الاحترام لكل أسير ما زال قابعاً في هذه الزنازين، نشاطرهم كل التضامن ونتمنى تحررهم القريب الذي يتحقق عبر النضال بالقوة، لا المفاوضات ولا الهدنة».