بقدر ما سجّلت حرب عام 2012 علامة فارقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية حينما قصفت تل أبيب، فإنها اليوم تخطّ تكتيكاً نوعياً بدأ بالتدرج وصولاً إلى التصعيد المفاجئ الذي بلغ الحرب المفتوحة على كل الاحتمالات. ليس الحديث عن المدى الصاروخي الذي تجاوز تل أبيب إلى الخضيرة على أهميته بقدر الالتفات إلى تنفيذ المقاومة عمليات نوعية في البر والبحر. كل ذلك قبل أن تفكر القوات الإسرائيلية، المحتشدة بعشرات الآلاف حول قطاع غزة، في أن تخطو خطوة واحدة نحو الحدود.
هذا ليس ردعاً بقدر ما هو حرب أدمغة، إن صح التوصيف؛ ففي البداية كانت المقاومة تطلق الصواريخ بين مديات 20ــ40 كيلومتراً من دون الإعلان عن المسؤولية، عدا بعض المجموعات والتشكيلات الصغيرة. لكن إسرائيل واصلت قصفها المركّز على مواقع تدريب وأراض وأهداف أخرى، ثم عادت لتمارس سياسة الاغتيالات باستهدافات مباشرة حصدت 10 شهداء في رفح، ما دعا كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، إلى إرسال رسالة واضحة عبر صلية صاروخية محدودة ومركزة قبل ليلتين.
لا يُعلم هل كانت الخطوة الإسرائيلية اللاحقة بإعادة استخدام سياسة قصف المنازل خطوة عقابية أو غبية، لكنها بدت محاولة لكسر خط أحمر استدعى تصعيداً من سرايا القدس، الجناح المسلح لحركة «الجهاد الإسلامي»، التي استرجعت المشهد الأقوى في الحرب السابقة، عبر تصدّرها قصف تل أبيب بصاروخ (براق 90، فجر 5 مطوّر)، وإعلانها حملة «البنيان المرصوص» لـ«تأكيد أن يد المقاومة واحدة في وجه إسرائيل».
رغم ذلك، أصرّت تل أبيب على ارتكاب المجازر عبر توسيع سياسة قصف المنازل وتدميرها على رؤوس ساكنيها، وهي ارتكبت، حتى كتابة النص، مجزرتين: الأولى في خانيونس ضد عائلة مهدي كوارع (ناشط في «حماس») وأدت إلى سقوط 6 شهداء، وثانية ضد عائلة حافظ حمد (قائد في «الجهاد») وأدت أيضاً إلى سقوط 6 شهداء آخرين. ثم قصفت منزلاً لعائلة عقل في المحافظة الوسطى، ليتخطّى حاجز الضحايا، في منتصف الليل، 25 شهيداً و130 جريحاً، جراء 450 هجمة في يوم واحد على القطاع.
ما لبثت كتائب القسام أن وسعت موجة القصف بعد سلسلة الاعتداءات الكبيرة والسريعة، فأرسلت صواريخها، أربعةً إلى القدس المحتلة ومثلها إلى تل أبيب (75 كلم عن غزة)، فيما أعلنت أنها استهدفت بصاروخ (رنتيسي 160 كلم) مدينة حيفا المحتلة، لكن المصادر الإسرائيلية أشارت إلى وقوع الصاروخ في الخضيرة (100 كلم عن غزة).

قدمت «القسام»
نموذجاً فريداً في المواجهة عبر ردّ استباقي على أي عملية برية
على مستوى ميداني آخر، قدمت «القسام» نموذجاً فريداً في المواجهة عبر ردّ استباقي على أي عملية برية إسرائيلية، وذلك في اتجاهين؛ الأول عملية تسلل بحرية إلى قاعدة زيكيم في عسقلان المحتلة عبر مجموعة من «الضفادع البحرية» نفذت عملية نوعية لا تزال إسرائيل تتكتّم على نتائجها، في حين أكدت «القسام» أنها تواصلت حتى اللحظات الأخيرة مع قائد المجموعة المهاجمة الذي أشار بدوره إلى وقوع قتلى في صفوف الجنود.
الاتجاه الثاني كان تفجير برج مراقبة، أو هدف لم تحدده بعد، عبر نسف نفق محفور تحت موقع كرم أبو سالم جنوب قطاع غزة، وهو الموقع نفسه الذي أسر منه الجندي جلعاد شاليط قبل أعوام، ووعدت بنشر التفاصيل لاحقاً، فيما لم يشر العدو إلى خسائر هناك.
مع أن العملية البحرية تزامنت مع اغتيال الاحتلال قائداً عسكرياً في «حماس»، قيل إنه مسؤول عن «الكوماندوز البحري»، فإن احتمال الاختراق الأمني على وروده ليس أكيداً، لأن العملية كانت مفاجئة بتوقيتها وتكتيكها، وهي عملية تجعل الجنود الإسرائيليين في حالة نفسية صعبة مع استهدافها قاعدة للجيش الذي ينوي اقتحام غزة.
قد تختصر هذه الحرب في ما لا يتعدى أسبوعاً بعد أن ألقت المقاومة جزءاً من أوراقها في ساحة الردود الاستباقية التي يمكن أن تمنع الاحتلال من الإقدام على المواجهة البرية، كما حدث في حرب الأيام الثمانية قبل عامين، حين خاف من «الكورنيت» على دباباته ومشاته. رغم ذلك، وقعت الحكومة الإسرائيلية في شر أعمالها، ولا تزال جبهة القدس والداخل المحتلة مفتوحة، ما يعني أنها مضطرة بطريقة أو أخرى إلى رد الاعتبار، وهذا ما يفتح باب الحرب إلى ما هو أوسع من المتوقع.
وحتى لا تكون هذه التوقعات خبط عشواء، كما ظهر أن تحليلات ما قبل تطورات يوم أمس كانت تميل إلى رغبة الطرفين في الهدوء، فإن هذه الحرب على كبرها وخروج المفاجآت في يوم واحد لا تنفي في أي حال الرغبة السابقة. ما جرى أن لعبة «حافة الهاوية» التي مارسها الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني، في الأيام الأخيرة، وصلت أمس إلى نهايتها، في انزلاق، متعمد أو غير متعمد، نحو المواجهة الواسعة.
مفاعيل الرد الصاروخي الفلسطيني حضرت بكل أبعادها على طاولة المجلس الوزاري المصغر (الكابينيت) الذي قرر في ردّ مضاد تجنيد 40 ألف جندي من قوات الاحتياط، استعداداً لإكمال العملية العسكرية التي أطلق عليها مسمّى «الجرف الصلب»، معطوفة على مواقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بالاستعداد للذهاب حتى النهاية، وأن «التوغل البري مطروح على الطاولة».
هذا الارتقاء الاسرائيلي على المستويين الميداني والسياسي ما كان ليتحقق لولا أن القراءة العبرية اتجهت نحو تقدير يفيد بأن مستوى الاعتداءات الحالية لم يعد كافياً لإخضاع غزة وفصائل المقاومة، وبأن الرد الفلسطيني ما كان ليقفز إلى مستوياته الحالية إلا على ضوء احتمالين، إما أن الفلسطينيين يستندون إلى فرضية أن إسرائيل لن تذهب نحو خيارات أكثر تطرفاً، وإما أنهم فعلاً على استعداد للذهاب إلى مواجهة أكثر اتساعاً، حتى لو تضمنت حرباً كبرى.
ما كشف خلال جلسة «الكابينيت» داخل وزارة الدفاع في تل أبيب أن نتنياهو عبّر بوضوح عن أن «حماس اختارت تصعيد الموقف، لذا فإنها ستدفع الثمن باهظاً». وطالب الجيش بـ«خلع القفازات وتوسيع رقعة العملية العسكرية». وأتى قرار نتنياهو والمجلس بناءً على توصية تقدم بها الجيش، وفحواها توسيع العملية العسكرية، مشيرة إلى أن «أي دولة لا تقبل واقعاً كهذا».
على المسار نفسه، أوضح وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه يعلون «أننا نستعد لمعركة ضد حماس لن تنتهي خلال أيام معدودة»، وشدد على ضرورة التمتع بطول النفس. أما وزير الأمن الداخلي يتسحاق أهارونوفيتش، فأكد أن الحكومة «منحت الجيش يداً طليقة لتنفيذ عمليات عسكرية ضد غزة»، لافتاً إلى أنه «لا يمكن احتجاز ملايين المواطنين في الملاجئ». في المقابل، ناشدت رئيسة حركة ميرتس، زهافا غلاؤون، نتنياهو، بألا يدخل برياً إلى القطاع غزة، قائلة إن الاختبار يكمن في الصمود وعدم الخضوع للداعين إلى الدخول البري. في سياق متصل، فتحت بلديتا «تل أبيب» و«ريشون لتسيون» غالبية الملاجئ العامة، وقررت وقف جزء كبير من النشاطات اليومية للسكان.
(الأخبار)



الأسماء الدينية للحرب

دأبت إسرائيل من جهة، والمقاومة الفلسطينية من جهة مقابلة، على تسمية العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية بأسماء مختلفة، لكنها كلها اشتركت في غايات الردع، وفي أنها ذات دلالات دينية واضحة. في هذه الحرب أطلق الاحتلال مسمى «الجرف الصامد»، أو «الصخرة الصلبة»، لترد عليه المقاومة باسم «البنيان المرصوص»، وكلاهما مقتبسان من الكتب السماوية. سبق ذلك بأيام عملية «عودة الإخوة» في الضفة المحتلة.
حرب عام 2012 سمّاها الاحتلال «عمود السحاب» لترد عليه سرايا القدس باسم «السماء الزرقاء» التي ستبتلع ذلك العمود، والقسام بـ«حجارة السجيل». وكانت تل أبيب أيضاً قد سمّت حرب 2008 عملية «الرصاص المصبوب» أو «الرصاص المصهور»، وسمّتها «حماس» آنذاك «حرب الفرقان» بين الحق والباطل.
هذه الردود بالتسميات الفلسطينية كانت غالباً لا تسبق إسرائيل التي تسارع إلى تسمية عملياتها الصغيرة والكبيرة، ومن تلك الأسماء: حقل الأشواك، والجحيم، وجهنم المتدحرجة، والسور الواقي، وأيضاً رحلة الألوان، والمسار الحازم، وفارس الليل، وقوس قزح. كذلك استخدمت اسم السهم الجنوبي، والطريق الحازم، وأول الغيث، وفي جباليا أيام الندم، وانفجارات بلا حدود، والواقي الأمامي، ورياح خريفية، والحديد البرتقالي، وسيف جلعاد، وليس أخيراً أمطار الصيف.