تكاد تكون مدينة لاتشين الصغيرة (2000 نسمة فقط) على الطريق الممتدّة من أرمينيا إلى قره باغ، إحدى أشهر المناطق في الحروب التي قامت بين أرمينيا وأذربيجان بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي عام 1990. واكتسبت المدينة أهمّيتها وشهرتها من كونها الممرّ الأوّل الذي استطاع الأرمن فتحه في عام 1992، من أجل الوصول إلى قره باغ الأرمينية، والتي كانت حينها منطقة حُكم ذاتي تابعة لأذربيجان. ومن خلال فتح هذا الممرّ، انقلبت موازين القوى لصالح الأرمن في الإقليم، وهو ما أتاح لهم إعلان استقلالهم تحت الاسم الأرميني للمنطقة، «جمهورية آرتساخ». لكنّ الحرب الأرمينية - الأذربيجانية الكبرى في مطلع التسعينيات، والتي كانت نتائجها لصالح الأرمن، انقلبت بعد حوالي 17 عاماً، في تشرين الأول 2019، رأساً على عقب، إذ تمكّن الأذربيجانيون، في هذه الحرب التي سمّوها بالحرب الوطنية، خلال 44 يوماً، من تحقيق انتصار كاسح على الجيش الأرميني وعلى مقاتلي قره باغ من الأرمن. كما تمكّنوا من السيطرة على النصف الشمالي من الإقليم وعلى مدينة شوشة، فيما بقي القسم الجنوبي بيد الأرمن، وعاصمته ستيباناكيرد، لكن مع وجود جنود روس يشرفون على الأمن في المنطقة. أمّا ممرّ لاتشين فقد بقي قائماً، ليشكّل صلة الوصل الوحيدة بين أرمينيا وقره باغ، تحت إشراف الجيش الروسي.وظلّت مدينة لاتشين نفسها وقريتا زابوخ وصوص الواقعتان إلى جنوبها، خارج السيطرة الأذربيجانية. ولكنّ اتفاق 9 تشرين الثاني 2019 الثلاثي بين أرمينيا وأذربيجان وروسيا، والذي أنهى الحرب، نصّ على عودة المدينة نفسها والقريتَين المذكورتَين إلى السيادة الأذربيجانية بحلول نهاية آب 2022. وهذا ما حصل فعلاً في 25 الجاري، حيث انسحب الروس من المدينة، وتمركزوا على طريق جديد بطول ثلاثين كيلومتراً يمرّ من خارجها ويؤدي إلى قره باغ، وسيكون هو المعتمَد بين أرمينيا والإقليم، بعدما شقّه الأذربيجانيون بأنفسهم وبمواصفات دولية. وفي اليوم التالي، أي في 26 آب، دخلت قوة أذربيجانية عسكرية، وتسلّمت المدينة الصغيرة، ورفعت علم بلادها هاتفةً: «لاتشين أذرية»، فيما شوهد جنود أتراك هناك يُخرجون من جيوبهم أعلاماً تركية ونسخاً من القرآن الكريم. بالتوازي مع ذلك، وجّه الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، رسالة إلى الأمّة يعلن فيها عودة لاتشين وزابوخ وصوص الى الوطن الأم، في حين بعث الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، برقية تهنئة إلى علييف بهذه المناسبة، وأصدرت الخارجية التركية، بدورها، بياناً هنّأت فيه باكو. وجاء في البيان أن «هذه الخطوة تشكّل مرحلة مهمّة في اتّجاه تعزيز الاستقرار والسلام في القوقاز الجنوبي، وهذا مهمّ للسلام بين أذربيجان وأرمينيا، كما لكلّ دول المنطقة». ومع انسحاب القوات الروسية من لاتشين وجوارها، غادر معها مَن كان يقطن فيها من سكّان أرمن، تقول وسائل الإعلام التركية إنهم جاؤوا أصلاً بعد عام 1992 من لبنان وسوريا، ليستوطنوا فيها بعدما تركها أكثر من ستّين ألفاً من الأذريين الذين كانوا فيها قبل الحرب. وتَذكر الصحافة التركية أن الأرمن الذين تركوا لاتشين وجوارها أحرقوا خلْفهم بيوتاً حتى لا يتركوها للأذريين.
تَعتبر تركيا نفسها جزءاً لا يتجزّأ من الانتصار الأذربيجاني


ومع أن خطّة التخلّي عن لاتشين من قِبَل أرمينيا، تُعتبر إشارة إلى الالتزام باتفاقية 9 تشرين الثاني 2019، إلّا أن الوضع الأمني على الحدود بين أرمينيا وما تبقّى من قره باغ بيد الأرمن، لم يكن مستتبّاً بالكامل، حيث سُجّلت اشتباكات بين الطرفَين، ألقى كلّ منهما اللوم فيها على الآخر، وآخر فصولها وقع في مطلع شهر آب الجاري، وذهب ضحيّته قتلى من الجانبين. وبينما اتّهمت روسيا باكو بانتهاك وقف إطلاق النار، وجّه وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، تحذيراً إلى يريفان من «اللعب بالنار والتحريض». ومع ذلك، فإن اللقاءات بين علييف ورئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، لم تنقطع، فيما ثمّة لقاء سيُعقد بينهما في بروكسل نهاية الشهر الجاري، برعاية رئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميتشيل. وقبْله بيوم واحد، ستَعقد لجنة ترسيم الحدود الأذربيجانية – الأرمينية المشتركة اجتماعاً في موسكو.
وتَعتبر تركيا نفسها جزءاً لا يتجزّأ من الانتصار الأذربيجاني، حيث ساعدت باكو بالأسلحة والتدريب، كما شارك جنود أتراك الجنود الروس في غرفة مراقبة عمليات وقف إطلاق النار. ولكنّ الانتصار الأهمّ بالنسبة إلى أنقرة، هو إقامة ممرّ زنغيزور بين منطقة نخجوان ذات الحُكم الذاتي التابعة لجمهورية أذربيجان لكن الواقعة خارجها، وبين الأراضي الأذربيجانية، مروراً بالأراضي الأرمينية، بمحاذاة الحدود الإيرانية، إذ يتيح هذا الممرّ ربط تركيا التي لها حدود برّية مع نخجوان، بأذربيجان والعالم التركي برّاً، عبر طريقَين، أحدهما إسفلتي والآخر عبارة عن سكّة حديد. وعلى الرغم من أهمية الخطّ المذكور لأنقرة وباكو، فإن العمل عليه لا يسير على ما يجب، وقد يتأخّر كثيراً، فضلاً عن أنه لا يثير ارتياح إيران التي ترى أنه يسلبها عائدات رسوم برّية كثيرة مفروضة على الشاحنات التركية التي تذهب من تركيا إلى أذربيجان وبَعدها العالم التركي، من جرّاء مرورها في الأراضي الإيرانية. وفي حال اكتمال ممرّ زينزيغور، فإن الشاحنات التركية وغيرها ستستغني بنسبة كبيرة عن الممرّ الإيراني.