الخرطوم | في محاولة لقطع الطريق أمام أيّ تسوية سياسية لا تضْمن لها الاحتفاظ بالمزايا التي منحتها إيّاها "اتفاقية سلام جوبا"، سارعت "مجموعة التوافق الوطني" إلى الكشف عن "إعلان سياسي للحُكم المدني الديموقراطي"، جاءت بنوده متناقضة وديباجته الرئيسة؛ إذ نصّ في متنه على مشاركة المؤسّسة العسكرية في السلطة خلال الفترة الانتقالية التي حدّدها بـ30 شهراً تبدأ من تاريخ التوقيع عليه، ما يعني أن الحُكم لن يكون مدنياً خالصاً. وتتكوّن مجموعة "التوافق الوطني" من حركات مسلّحة وقّعت مع الحكومة الانتقالية السابقة بقيادة عبدالله حمدوك، على اتّفاق سلام في عاصمة جنوب السودان جوبا في العام 2020، بالإضافة إلى بعض القوى الأهلية والمجتمعية، وعلى رأسها "تنسيقية شرق السودان"، و"المجلس الأعلى لنظارات الباجا"، و"تنسيقية وسط السودان". وتجمع هذه الكيانات صفةٌ مشتركة، وهي تماهيها مع المكوّن العسكري ودعمها لقراراته، حيث قادت الاعتصام الداعم للانقلاب أمام باحة القصر الجمهوري في تشرين الأول الماضي، رافعةً شعار "تصحيح مسار الثورة"؛ كما سبق أن اتّخذ منها العسكر غطاءً للانقلاب على الحكومة المدنية القائمة، بتبريره لاحقاً ما قام بأنه تمّ بناءً على مناشدة القوى السياسية والشارع. وتسعى المجموعة المذكورة إلى الحفاظ على المناصب والامتيازات التي يمسك بموجبها قادة الحركات المسلّحة بأهمّ مفاصل الدولة الاقتصادية، وعلى رأسها وزارة المالية والمعادن، بمباركة العسكر. ومن هنا، لم يكن مستغرَباً أن يمنح الإعلان السياسي المكوّن العسكري حق المشاركة في السلطة، على الرغم من إعلان قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، خروج العسكر من العملية السياسية، ودعواته المتكرّرة للقوى السياسية إلى تشكيل حكومة مدنية. ولعلّ هذا البند تحديداً هو ما يقود إلى الاعتقاد بأن الإعلان تمّ طبخه داخل مباني القيادة العامّة للجيش، وأن مسألة مباركته من قِبل المكوّن العسكري هي مسألة وقت، باعتبار أن قائد الجيش رمى الكرة في ملعب القوى السياسية و"القوى الثورية" قبل أكثر من شهرَين لتشكيل حكومة مدنية، لكنّها لم تستجب لدعواته.
في مسعى لإرضاء "الشارع الثوري"، غازل إعلان "التوافق الوطني" الشباب


كذلك، نصّ الإعلان على تشكيل جسم سيادي لإدارة الفترة الانتقالية، كما على إجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية لعام 2019، والتي كان من المفترض أن تُدار بموجبها الفترة الانتقالية قبل أن يجمّد البرهان العمل بها. ومن بين تلك التعديلات حذْف المادة 20 التي تمنع على شاغلي المناصب الدستورية خلال الفترة الانتقالية حقّ الترشح في الانتخابات، بالتالي تضْمن المجموعة ذاتها التي حكمت في الفترة المذكورة الاستمرار في السلطة حتى بعد إجراء الانتخابات، حيث سيكون من السهولة تسخير موارد الدولة خلال الحملات الانتخابية للمرشحين. ويُضاف إلى ما تَقدّم، منْح قوى "التوافق الوطني" نفسها سلطة إعفاء رئيس الوزراء عوضاً عن المجلس التشريعي الذي نصّ الإعلان الجديد على أن يشكَّل من 400 عضو يراعَى في اختيارهم التنوّع العرقي والديني، وهي بهذا بالإضافة إلى استئثارها بحقّ تعيين رئيس الوزراء وإعفائه، تُنصّب نفسها حاضنة سياسية للحكومة المقبلة عوضاً عن قوى "الحرية والتغيير - المجلس المركزي"، الطرف الموقّع على الوثيقة الدستورية، وهو ما اعتبرته الأخيرة "خيانة لثورة ديسمبر، وانتهازية تعمّدت فيها أدوات العسكر  تقاسم المكاسب مع مُحرّكيها في السلطة الانقلابية".
ووفق محمد عبد الحكم، رئيس القطاع الإعلامي لـ"التجمّع الاتحادي"، أحد مكوّنات قوى "الحرية والتغيير - المجلس المركزي"، فإن "الإعلان السياسي لمجموعة التوافق الوطني يمنح الشرعية الدستورية للانقلاب، وهو إعادة تدوير لمبادرة رجل الدين الصوفي الطيب الجد التي يرعاها البرهان وخلف الستار قيادات من النظام البائد". ويرى عبد الحكم، في تصريح إلى "الأخبار"، أن "مجموعة التوافق ليست سوى أداة يستخدمها الجيش لتحقيق أهداف الانقلاب"، مضيفاً: "نحن في التجمع الاتحادي نؤكد رفضنا للإعلان الدستوري المقترَح، وسنتصدّى بحزم لأيّ خطوة أحادية من العسكر وحلفائهم وصولاً إلى تحقيق أهداف الثورة ودولة الحرية والسلام والعدالة".
من جهة أخرى، وفي مسعى لإرضاء "الشارع الثوري"، غازل إعلان "التوافق الوطني" الشباب، ضامناً لهم المشاركة في جميع هياكل السلطة الانتقالية، من مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، بالإضافة إلى إنشاء مفوضية للشباب تهتمّ بقضاياهم. وفي هذا الإطار، قال الأمين السياسي لحركة "العدل والمساواة"، أحد مكوّنات مجموعة "التوافق الوطني"، بارود صندل، في منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي: "نتطلّع خلال الفترة الانتقالية إلى أن تتحوّل لجان المقاومة ومجموعة (ملوك الاشتباك) - وهي مجموعة شبابية تقود بشراسة الحراك السلمي ضدّ انقلاب البرهان والحركات المسلحة منذ أكثر من عشرة أشهر - إلى الاشتباك داخل الحكومة بدلاً من خارجها، وأن تتحوّل طاقات الشباب ومجموعتا (ملوك الاشتباك) و(غاضبون) إلى طاقات إيجابية لبناء الوطن".